الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الرشوة فساد ولعنة

الرشوة فساد ولعنة

 الرشوة فساد ولعنة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن والاه، وبعد:
فقد خلق الله الخلق وقدر آجالهم، وقسم أرزاقهم، وجعل للكسب الحلال الطيب أسبابا، والمؤمن يكتسب طيب المال، ويبحث عن أسباب الحلال، يقول الله جلَّ وعلا: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُور}(الملك:15). وقال سبحانه: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}(المزمل: 20)
وكما أحل الله تعالى لعباده أكل الحلال الطيب فقد حرم عليهم أكل الخبيث، وبين للعباد أن أكل الحرام يمنع إجابة الدعاء، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَيُّها النَّاسُ، إنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لا يَقْبَلُ إلَّا طَيِّبًا، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ المُؤْمِنِينَ بما أمَرَ به المُرْسَلِينَ، فقالَ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون: 51]، وقالَ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172]، ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ يُطِيلُ السَّفَرَ أشْعَثَ أغْبَرَ، يَمُدُّ يَدَيْهِ إلى السَّماءِ، يا رَبِّ، يا رَبِّ، ومَطْعَمُهُ حَرامٌ، ومَشْرَبُهُ حَرامٌ، ومَلْبَسُهُ حَرامٌ، وغُذِيَ بالحَرامِ، فأنَّى يُسْتَجابُ لذلكَ؟!".
وإن من شر المكاسب وأخبث الأموال ما يأخذه الراشي من رشوة، فإنها كسبٌ خبيثٌ ومالٌ محرمٌ، عواقبه سيئةٌ في الدنيا والآخرة.

تعريف الرشوة وحكمها:
الرشوة هي ما يُعطى لإبطال حق أو إحقاق باطل، وهي محرمة، بل هي من الكبائر، فقد قال الله تعالى : {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ}(البقرة/188).
قال الذهبي - رحمه الله تعالى - : " لا تُدلوا بأموالكم إلى الحكام : أي لا تصانعوهم بها ولا ترشوهم ليقتطعوا لكم حقـاً لغيركم وأنتم تعلمون أن ذلك لا يحل لكم ".اهـ .
ولا شك أن الذي يأخذ الرشوة إنما يأكل سُحتـاً، وقد ذم الله تعالى هذا الصنف من الناس، وشنَّع عليهم أشد التشنيع، فقال تعالى : {وَتَرَى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(المائدة/62).

الرشوة سبب اللعنة
ولأن الرشوة إذا شاعت في المجتمعات فإنها تؤدي إلى ضياع الحقوق وشيوع الظلم وانتشار الفساد، فقد لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تعامل بها، فعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما - قال: "لعن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الراشي والمرتشي". (رواه الترمذي وأبو داود ، وقال الألباني : صحيح).
كما بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما سيلقاه المرتشي من العقوبة ، وما يلحقه من الإثم حين استعمل رجلاً ، فلما قدم قال : هذا لكم وهذا أُهدي لي ، فقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على المنبر وقال: "ما بال عاملٍ أبعثه فيقول : هذا لكم وهذا أُهدي لي ! أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيُهدى إليه أم لا ؟ والذي نفس محمد بيده، لا ينال أحد منكم منها شيئـًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه ، بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر".
فالذي يأكل الرشوة إنما يحملها على عاتقه إثمـًا عظيمـًا ، يُسأل عنه يوم القيامة.
ومما ينبغي أن يُعلم أن الرشوة حرام على الآخذ مطلقـًا، أما بالنسبة للدافع ففيها تفصيل، فتكون حرامـًا في حقه إن كان دفعها لاقتطاع حق غيره أو لظلمه، أما إن كان مضطرًا لدفعها للحصول على حقٍ هو له، أو لدفع ظلم، أو ما شابه ذلك فهي في حقه ليست حرامـًا.

الرشوة على أربعة أوجه

قال التّهانويّ:(الرّشوة على أربعة أوجه:
الأوّل: رشوة محرّمة من الجانبين (الرّاشي والمرتشي) ، ولها صورتان: الأولى: تقلّد القضاء بحيث لا يصير (القاضي) قاضيا بدونها. والثّانية: دفع الرّشوة إلى القاضي ليقضي له، سواء كان القضاء بحقّ أو بغير حقّ.
الثّاني: دفع الرّشوة خوفا على النّفس أو المال، وهذه حرام على الآخذ غير حرام على الدّافع، وكذا إذا طمع ظالم في ماله فرشاه ببعض المال، ومن هذا النّوع ما يدفعه شخص إلى شاعر، خوفا من الهجاء أو الذّمّ.
الثّالث: الرّشوة تدفع للحاكم ليسوّي أمرا من الأمور، بحيث يشترط عليه ذلك وهذه حلال للدّافع حرام للآخذ، فإن طلب منه أن يسوّي أمره ولم يذكر له الرّشوة ثمّ أعطاه بعد ذلك شيئا، اختلف فيه العلماء، فقال بعضهم: لا يحلّ له، وقال بعضهم: يحلّ.
الرّابع: وهو ما أشبه الرّشوة وليس بها، وهو ما كان الدّفع فيه على سبيل التّودّد والتّحبّب، وهذا حلال للجانبين).«نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم» (10/ 4543).
وقال الذهبي رحمه الله: (إنّما تلحق اللّعنة الرّاشي إذا قصد بها أذيّة مسلم، أو ليدفع له بها ما لا يستحقّ، أمّا إذا أعطى ليتوصّل إلى حقّ له، أو ليدفع عن نفسه ظلما، فإنّه غير داخل في اللّعنة، أمّا الحاكم فالرّشوة عليه حرام سواء أبطل بها حقّا أو دفع بها ظلما، والرّائش (وهو السّاعي بالرّشوة) تابع للرّاشي في قصده إن قصد خيرا لم تلحقه اللّعنة وإلّا لحقته).

الفرق بين الرشوة والهدية
إن هناك فرقـًا مهمـًا بين الرشوة والهدية - وإن اشتبها في الصورة - والفرق راجعٌ أساسـًا إلى القصد، إذ أن القصد في الرشوة هو التوصل إلى إبطال حق، أو تحقيق باطل، أما المُهدي فقصده استجلاب المودة والمعرفة والإحسان.
قال ابن قيّم الجوزيّة: الفرق بين الهديّة والرّشوة- وإن اشتبها في الصّورة- القصد، فإنّ الرّاشي قصده بالرّشوة التّوصّل إلى إبطال حقّ، أو تحقيق باطل، فهذا الرّاشي الملعون على لسان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن رشا لدفع الظّلم عن نفسه اختصّ المرتشي وحده باللّعنة، وأمّا المهدي فقصده استجلاب المودّة والمعرفة والإحسان، فإن قصد المكافأة فهو معاوض، وإن قصد الرّبح فهو مستكثر.

ومن أهم المضار والمفاسد المترتبة على الرشوة أنها:
1) تُغضب الله جل وعلا وتجلب على صاحبها العذاب واللعنة.
2) تُفسد المجتمع حكامـًا ومحكومين.
3) تُبطل حقوق الضعفاء والمظلومين.
إن فساد هؤلاء المرتشين ليعبث بالأفراد والمجتمعات، فكم من دواء فاسد وغذاء غير صالح قد تسلل إلى المجتمعات بسبب الرشوة! وكم من طرق قد عبدت وجسور قد شيدت ثم انهارت وبددت الأموال التي دفعت فيها بسبب الرشوة! وكم من مساكن قد بنيت وانهارت على رؤوس ساكنيها بسبب الرشوة!.
ألا فليتق الله تعالى كلُّ من ولاه الله أمرا من أمور المسلمين وليعلم أنه موقوف بين يدي الله تعالى ومسؤول عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه.
نسأل الله تعال أن يكفينا بحلاله عن حرامه وأن يرزقنا والمسلمين الرزق الحلال الطيب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة