الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

من أحكام مسائل العقيدة صحة الاستدلال على بعضها بالقياس

من أحكام مسائل العقيدة صحة الاستدلال على بعضها بالقياس

 من أحكام مسائل العقيدة صحة الاستدلال على بعضها بالقياس

كثير ممن يخوض في بيان حكم الاستدلال بالقياس على مسائل العقيدة لا يفرق بين أنواع القياس، ولا بين أصناف مسائل العقيدة وأنها ليست على مرتبة واحدة، وإنما يعطي حكمًا مطلقًا بمنع الاستدلال بالقياس في مسائل العقيدة، ويورد نصوصًا من كلام السلف المانعين من الاستدلال بالقياس في مسائل العقيدة. وحقيقة الأمر ليست على هذا الحال، ولا بد عند إطلاق الحكم من التفريق بين أمرين، بين مسائل العقيدة نفسها، وبين أنواع القياس أيضًا، وذلك حتى يفهم مراد السلف من منعهم الاستدلال بالقياس في مسائل العقيدة، وبيان ذلك فيما يأتي:

المقصود بالقياس هنا القياس المعروف عند علماء أصول الفقه، وهو على أنواع، ترجع في جملتها إلى نوعين اثنين هما: قياس الطرد، وقياس العكس، وتعريفهما وما يصلح منهما للاستدلال به على مسائل العقيدة وما لا يصلح فيما يأتي:
أولًا: قياس الطرد: وهو "إلحاق أمر بأمر في الحكم لمعنى جامع بينهما"، وهذا الأمر الجامع إما أن يكون على جهة التساوي أو التقارب فيسمى قياس التمثيل، وذلك كقياس حكم إحراق مال اليتيم على حكم أكله. وإما أن يكون الأمر الجامع على جهة التفاضل في المقيس فيسمى قياس الأولى، وذلك كحكم ضرب الوالدين قياسًا على منع التأفف منهما.
الاستدلال بقياس الطرد في مسائل العقيدة وقع فيه لغط كبير، وذلك يرجع إلى اختلاف مسائل العقيدة في درجتها، وإلى أن القياس أنواع منه ما هو قياس تمثيل، ومنه ما هو قياس أولى، إضافة إلى أن بعض السلف قد قال عبارات أطلق فيها نفي القياس في العقيدة، ومن ذلك قول القاضي أبي يوسف: (ت: 182 هـ): "ليس التوحيد بالقياس"، وقول الإمام أحمد (ت: 241 هـ): "ليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال"، وغيرها من الأقوال التي استدل بها البعض دون إدراك منهم لمراد هؤلاء الأئمة بالقياس المنفي ما هو وأين يكون، ولتحرير ذلك لا بد من معرفة أقسام مسائل العقيدة.
أقسام مسائل العقيدة هي:
1. الإلهيات: وهي المسائل المتعلقة بوجود الله تعالى وأسمائه وصفاته، وهذا القسم لا يستعمل فيه إلا قياس الأولى؛ لأن الله تعالى لا يكون مساويًا ولا مماثلًا لغيره من المخلوقات، بل هو أولى سبحانه بصفات الكمال من أي مخلوق، ولذا صحَّ أن يستعمل في حقه قياس الأولى دون قياس التمثيل والشمول، فلا نثبت لله صفة المعرفة قياسًا على صفة العلم، ولا صفة العقل قياسًا على صفة الحكمة.
والمتمعن في كلام أئمة السلف يدرك أنهم إنما منعوا الاستدلال بقياس التمثيل ولم يمنعوه في قياس الأولى، ومن ذلك قول الإمام أحمد يستدل فيه بقياس الأولى على عدم مماسه الله تعالى لخلقه: "ومن الاعتبار في ذلك، لو أن رجلاً كان في يديه قدح من قوارير صافٍ وفيه شراب صافٍ، كان بصر ابن آدم قد أحاط بالقدح من غير أن يكون ابن آدم في القدح، فالله وله المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه، من غير أن يكون في شيء من خلقه، وخصلة أخرى: لو أن رجلاً بنى دارًا بجميع مرافقها، ثم أغلق بابها وخرج منها، كان ابن آدم لا يخفى عليه كم بيت في داره، وكم سعة كل بيت من غير أن يكون صاحب الدار في جوف الدار، فالله وله المثل الأعلى قد أحاط بجميع خلقه، وعلم كيف هو، وما هو، من غير أن يكون في شيء مما خلق".
2. الغيبيات: وهي الأمور التي أخبر الشارع عن وقوعها في الماضي أو المستقبل، ويدخل في ذلك كل ما لا يدركه الحس من العوالم، كعالم الجن والملائكة، وكذا ما يقع عند الموت وما يتعلق باليوم الآخر، وهذا النوع من مسائل العقيدة لا يدخل فيه أي نوع من أنواع القياس، لا قياس التمثيل، ولا قياس الأولى، فلا يقاس ميزان الآخرة على ميزان الدنيا مثلا، ولا صحف الآخرة على صحف الدنيا، ولا قياس عالم الجن على عالم الملائكة، ونحو ذلك، وسبب منع ذلك أن القياس في هذا الأمر يخالف القواعد الأصولية المتعلقة بالقياس لا لأنها مسائل في العقيدة! ومن أبرز ذلك أنها مسائل غير معللة.
3. الأمور التشريعية: أي الأمور التي فيها تكليف وطلب بالعمل فعلًا أو تركًا، كالاستغاثة والذبح والتوسل والطواف وغيرها من المسائل، وهي لا تختلف عن غيرها من الأمور التكليفية الأخرى، فيدخل فيها القياس بشروطه وضوابطه المعروفة في أصول الفقه، فما عرف معناه من هذه المسائل يمكن أن يقاس عليه غيره، إذ ليس كل مسائل العقيدة مسائل خبرية مجهولة المعنى، ومن الأمثلة على وقوع القياس في هذه المسائل مسألة التبرك بالصالحين، وهي مسألة خلافية، فمن أجازها قاس على جواز التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجعل علة ذلك الصلاح، فمتى تحققت هذه العلة في غيره جاز التبرك به، ومن منع من ذلك جعل العلة هي النبوة، وهي لا تتحقق إلا به صلى الله عليه وسلم، ولذا جعلوا التبرك من خصائصه صلى الله عليه وسلم.
النوع الثاني من أنواع القياس: قياس العكس: وهو "إثبات نقيض حكم الشيء في غيره لافتراقهما في علة الحكم"، وأبرز ما يمثل به لهذا القياس؛ قوله صلى الله عليه وسلم: «وفي بضع أحدكم صدقة، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ قال: أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه فيها وزر؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر» رواه مسلم. فقد جعل صلى الله عليه وسلم وطء الأجنبية هو الأصل، والعلة كونه فرجًا حرامًا، وجعل وطء الزوجة فرعًا، وأعطاه عكس حكم الأصل وهو الإباحة لكونه فرجًا حلالًا.
وقد روي أن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قد استعمل هذا القياس في العقيدة ومن ذلك أنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من مات يشرك بالله شيئا دخل النار. وقلت أنا: من مات لا يشرك بالله شيئًا دخل الجنة» رواه البخاري ومسلم. وقد أثبت الإمام الشافعي رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة مستدلًا على ذلك بقياس العكس حيث قال في قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] "ما حجب الفجار إلا وقد علم أن الأبرار يرونه عز وجل".
وبهذا يتبين لنا أن من مسائل العقيدة ما لا يدخله القياس أبدًا، ومنها ما يصح الاستدلال عليها بقياس الأولى دون قياس التمثيل، ومنها ما يصح الاستدلال عليها بقياس التمثيل وقياس الأولى، وقياس العكس أيضًا.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة

لا يوجد مواد ذات صلة