الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

السيـاق اللغـوي وأثره في فهم الحديـث النبـوي

السيـاق اللغـوي وأثره في فهم الحديـث النبـوي

 السيـاق اللغـوي وأثره في فهم الحديـث النبـوي
الكلمة لها معنى معجمي من خلال ردها إلى أصلها، ومعرفة معناها بأصل اللغة، ولكن ذلك لا يستقل بتحديد المعنى، بل لا بد من النظر في تركيب الكلام، فالنص يفهم بنظمه المتكامل، فكل تركيب نظمي له معنى يختلف عن غيره، فقد تأتي الكلمة في سياق التشبيه، أو الاستعارة أو الكناية، والسياق اللغوي هو الذي يفهم منه ذلك، ونعني بالسياق اللغوي الأسلوب الذي جاءت فيه الكلمة أو العبارة.
يقول ابن القيم في أعلام الموقعين: والألفاظ لم تقصد لذواتها، وإنما هي أدلة يستدل بها على مراد المتكلم، فإذا ظهر مراده، ووضح بأي طريق كان عمل بمقتضاه، سواء كان بإشارة، أو كتابة، أو بإيماءة أو دلالة عقلية، أو قرينة حالية، أو عادة له مطردة لا يخل بها.
وبالمثال يتضح المقال: قول النبي صلى الله عليه وسلم لنسائه لما قلن له: أينا أسرع بك لحوقا؟ قال: «أطولكن يدا» متفق عليه، فاليد في معناها المعجمي هي: العضو المعروف، لكنها في هذا السياق تعني الكرم والسخاء، والكلمة نفسها قد تقع في سياق آخر، ويكون لها معنى مختلف، بحسب النظم الذي وردت فيه، كقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح ابن حبان عن ابن عمر: «المسلمون تتكافأ دماؤهم. يسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم»، فاليد هنا بمعنى العون، فهم كاليد الواحدة لا تختلف أجزاؤها، ولا يستغني بعضها عن بعض.
قال الشافعي في الرسالة: إنما خاطب الله بكتابه العرب بلسانها، على ما تعرف من معانيها، وكان مما تعرف من معانيها: اتساع لسانها، وأن فطرته أن يخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به العام الظاهر، ويستغنى بأول هذا منه عن آخره، وعاما ظاهرا يراد به العام، ويدخله الخاص، فيستدل على هذا ببعض ما خوطب به فيه؛ وعاما ظاهرا، يراد به الخاص، وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره.
فقوله: وظاهرا يعرف في سياقه أنه يراد به غير ظاهره، هو موضع الشاهد في كلامه، فقد يقع في النصوص الشرعية ظوهر يأبى السياق حملها على الظاهر، فنحتاج إلى توجيهها بما يتسق مع نظم الكلام وتركيبه.
ومن الأمثلة التي يظهر فيها أثر السياق اللغوي على المعنى ما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يقول الله عز وجل: «أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه حين يذكرني، إن ذكرني في نفسه، ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ، ذكرته في ملإ هم خير منهم، وإن تقرب مني شبرا، تقربت إليه ذراعا، وإن تقرب إلي ذراعا، تقربت منه باعا، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة».
فقد ورد في الحديث ألفاظ تشكل على القارئ، كقوله "تقربت منه ذراعا"، وقوله "أتيته هرولة"، لا سيما وهي في الكلام عن الله تعالى، ولكن حين نوجه معناها من خلال السياق ينحل الإشكال، ويتبين أن هذا من باب الكناية، وهو أسلوب مستعمل في النظم العربي، ويستعمل هذا الأسلوب لتقريب المعنى، وإبراز المعقول في صورة المحسوس، فلا يكون المعنى القرب والهرولة الحسية، فالله أجل وأعلى من أن يضاف إليه ذلك، وإنما المقصود القرب المعنوي، وسرعة إثابة العبد على قدر سرعته في العمل الصالح.
يقول ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث: ونحن نقول: إن هذا تمثيل وتشبيه، وإنما أراد: من أتاني مسرعا بالطاعة، أتيته بالثواب أسرع من إتيانه، فكنى عن ذلك بالمشي وبالهرولة، كما يقال فلان موضع في الضلال -والإيضاع: سير سريع- لا يراد به أنه يسير ذلك السير، وإنما يراد أنه يسرع إلى الضلال، فكنى بالوضع عن الإسراع، وكذلك قوله: {والذين سعوا في آياتنا معاجزين}، والسعي: الإسراع في المشي، وليس يراد أنهم مشوا دائما، وإنما يراد: أنهم أسرعوا بنياتهم وأعمالهم، والله أعلم.
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم: هذا الحديث من أحاديث الصفات، ويستحيل إرادة ظاهره، ومعناه: من تقرب إلي بطاعتي تقربت إليه برحمتي والتوفيق والإعانة، وإن زاد زدتُ، فإن أتاني يمشي وأسرع في طاعتي أتيته هرولة أي: صببت عليه الرحمة، وسبقته بها ولم أحوجه إلى المشي الكثير في الوصول إلى المقصود.
وقال ابن التين: القرب هنا نظير ما تقدم في قوله تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى} [النجم: 9] فإن المراد به: قرب الرتبة، وتوفير الكرامة، والهرولة؛ كناية عن سرعة الرحمة إليه ورضا الله عن العبد، وتضعيف الأجر. نقله ابن حجر في الفتح.
فالقارئ لمثل هذه العبارات النبوية لا بد أن يكون عارفا بأساليب العرب في نظم الكلام وتراكيبه، وتفننهم في الخطاب بالتشبيه، والاستعارة، والكناية، وغيرها من الأساليب التي لا يصلح حملها على ظاهرها، وإنما يرجع فيها إلى المعنى المركب، وسياق نظم الكلام، وإلا وقع في إشكالات كثيرة.
ومن أمثلة السياق اللغوي في الحديث النبوي حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال «إذا جلس بين شعبها الأربع، ثم جهدها، فقد وجب الغسل»، وفي لفظ «وإن لم ينزل» متفق عليه.
قال ابن دقيق العيد: وقوله في الحديث " ثم جهدها " بفتح الجيم والهاء: أي بلغ مشقتها، يقال منه: جهده، وأجهده، أي بلغ مشقته، وهذا أيضا لا يراد حقيقته، وإنما المقصود منه: وجوب الغسل بالجماع، وإن لم ينزل، وهذه كلها كنايات، يكتفى بفهم المعنى منها عن التصريح، وقوله " بين شعبها الأربع " كناية عن المرأة، وإن لم يجر لها ذكر، اكتفاء بفهم المعنى من السياق.
ومن الأمثلة: قوله - صلى الله عليه وسلم – في حديث أم زرع في صحيح مسلم: «ولا يولج الكف ليعلم البث» المعنى: لا يسألها عن أحوالها ليطلع على ما بها من ضرورة في المصالح، فقوله: "ولا يولج الكف" كناية عن عدم السؤال والبحث عن حالها، وهل يحتمل أن يكون ذلك على الحقيقة؟ الجواب أنه نقل عن أبي عبيد ذلك، حيث فسر اللفظ بمعناه المعجمي، وأنها مدحته بأنه لم يدخل يده ليعلم ما بجسمها من العيب، قال الكوراني في كتابه الكوثر الجاري إلى رياض أحاديث البخاري: "وهذا بعيد يأباه السياق". ولعله يقصد أن السياق السابق في الذم لا في المدح، فالجملة السابقة في الذم لا في المدح، وهي قولها: قالت السادسة: زوجي إن أكل لَفّ، وإن شرب اشتف"، والمعنى كثرة أكله وشربه.
فشراح الحديث يوجهون النص النبوي بالسياق حتى ولو كانت الألفاظ تحتمل معان أخرى، مراعاة منهم لاتساق نظم الكلام، وصحة المعنى، فيراعون الأساليب العربية التي يرد بها النص النبوي، من الكنايات والاستعارات، والتشبيهات، وغيرها من أساليب التفنن في الكلام، وتجسيد المعاني الخفية في صورة المحسوسات.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة