الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

البيهقي الحافظ الفقيه

البيهقي الحافظ الفقيه

 البيهقي الحافظ الفقيه

أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي الإمام المحدث المتقن صاحب التصانيف الجليلة، الذي أفنى حياته في رياض العلم والمعرفة حتى برز في جوانب شتى من العلوم الإسلامية، وذاع صيته في كل حدب وصوب.
تتلمذ على جهابذة عصره وعلماء وقته وشهد له العلماء بالتقدم والإتقان، ولم يكن من الحفاظ الذين يشغلهم الحفظ عن الفقه، بل كان حفظه جزءا من فقهه فهو محدث فقيه.
بدأ رحلة العلم وهو ابن خمس عشرة سنة ولم يطلب العلم في بلدته فحسب بل رحل إلى نيسابور والعراق والحجاز، وتلقى علوماً كثيرة، وزاد عدد شيوخه على المائة، ولدى عودته من رحلته التي استمرت زهاء 30 عاما انقطع في قريته مقبلاً على التأليف، بعد أن صار فارس ميدانه، وأوحد زمانه فأخرج مؤلفات كبيرة وكثيرة لم يُسبق إلى كثير منها.
توسع أبو بكر البيهقي في تحصيل العلوم، فعني بالحديث عناية شديدة وخصوصاً بالأخذ عن أبي عبد الله الحاكم النيسابوري وتخرج به، وصنف كتباً كثيرة في الحديث، وأضاف إلى ذلك الاعتناء بعلم علل الحديث أي نقد الحديث نقداً دقيقاً يكشف خباياه، واشتغل بالفقه على المذهب الشافعي وصار من أكثر الناس نصرة له، وبرع فيه، وأخذ أصول الفقه وعلم الكلام، وأفاده ذلك عمق النظر في الحديث، والتوفيق بين ما يظن أنه متعارض من الأحاديث، فكان واحد زمانه في الحفظ والإتقان والضبط حتى شهد له بالاجتهاد، وبورك له في علمه وعمله، وسار الركبان بإنتاجه العلمي إلى كل صقع من أصقاع العام الإسلامي.
اسمه ونسبته
هو أبو بكر أحمد ابن الحسين بن علي بن موسى البيهقي الخسروجردي.
وبَيْهَقُ: بالفتح، أصلها بالفارسية بيهه بهاءين، ومعناه بالفارسية الأجود.
وهي منطقة كبيرة كثيرة البلدان والعمارة من نواحي نيسابور بخراسان تقع غربها. أخرجت هذه المنطقة عددا لا يحصى من العلماء.
وبيهق أو سبزوار (حالياً) هي مدينة إيرانية تقع في محافظة خراسان رضوي شمال شرق إيران، وتبعد حوالي 250 كم إلى الغرب من مدينة مشهد عاصمة محافظة خراسان رضوي.
و (خُسْرُوجِرْدُ) إحدى قرى بيهق.

رحلته في طلب العلم

ولد الإمام البيهقي في سنة أربع وثمانين وثلاثمائة في شعبان، وفي سن الخامسة عشرة ابتدأ البيهقي التطواف على الشيوخ لتلقى العلم من منابعه، فبدأ بالسماع لكبار أعلام وفقهاء (خسروجرد) مسقط رأسه.
ثم كان المكان الأول الذي تلقى فيه البيهقي علومه بعد بيهق هو نيسابور وما جاورها من البلدان.
ثم كانت محطاته المهمة في هذه الرحلة إلى بلاد العراق والحجاز في رحلته إلى الحج، وبلاد نوقان وإسفرايين، وطوس والمهرجان وأسد آباد وهمذان والدامغان، وأصبهان، والري والطابران ونيسابور وروذبار وبغداد ومكة والمدينة وشط العرب إلى غير ذلك من البلدان.
وقد سمع البيهقي في بغداد وقد كانت من المراكز الحديثية الكبرى من عدد وافر من المحدثين، الذين كانوا يتصدرون النشاط العلمي في هذا البلد وقتذاك، ثم تابع البيهقي رحلاته العلمية إلى بقية البلدان الإِسلامية في طلب الحديث والتزود من الشيوخ وتحصيل العلوّ من الإسناد.
وبعد تطواف دائم وترحال متصل دام حوالى ثلاثين سنة تقريبًا، عاد البيهقي إلى مدينة (بيهق) بعد أن تبوأ مكانة مرموقة وأصبح من الأعلام المشهورين والحفاظ المعدودين، لينقطع فيها عاكفا على هذه الكنوز التي نالها من رحلته، ليخرج منها هذه الكتب التي قل مثالها في بابها، وكان من ثمار اجتهاده وقوة همته في طلب العلم أن تمكن من جمع هذا العلم الوافر الغزير في مصنفات ومؤلفات أثني عليها العلماء.

شيوخه

تتلمذ البيهقي على طائفة من العلماء من أشهرهم الحاكم صاحب المستدرك على الصحيحين، وابن فورك الأصبهاني، وأبو عبد الرحمن السلمي وأبو منصور البغدادي وأبو محمد الجويني والد إمام الحرمين.

زهده وورعه:

لقد كان البيهقي من العلماء العاملين الذين يقتدون بالنبي - صلى اللَّهِ عليه وسلم - ويسيرون على هديه ونهجه وسيرة صحابته، فكان زاهدا ورعا مقلًّا من الدنيا مستغنيا بالقناعة والعفاف كثير العبادة دقيق المراقبة لله عَزَّ وَجَلَّ في جميع أعماله وأقواله.
قال عبد الغافر الفارسي: "كان على سيرة العلماء، قانعا من الدنيا باليسير، متجملا في زهده وورعه".
وقال ابن خلكان: "كان زاهدا متقللا من الدنيا بالقليل، كثير العبادة والورع على طريقة السلف".
وقال ابن الأثير: "كان عفيفا زاهدا".
وقال القارئ: "كان له غاية الإنصاف في المناظرة والمباحثة"
وقال ياقوت الحموي في "معجم البلدان": أوحد الدهر في الحفظ والإتقان مع الدِّين المتين.
وقال الذهبي في "العبر": نفع الله بتصانيفه المسلمين شرقًا وغربًا، لإمامة الرَّجل ودينه وفضله وإتقانه، فالله يرحمه.
وقال السبكي في "طبقاته": كان الإمام البَيْهقي أحد أئمة المسلمين، وهُداة المؤمنين، والدعاة إلى حبل الله المتين، زاهد ورع، قانت لله.
وقال ابن كثير في "البداية": كان زاهدًا متقلِّلًا من الدنيا، كثير العبادة والورع، -رحمه الله تعالي-

البيهقي وعلم الحديث

علم الحديث هو أشهر الجوانب التي نبغ فيها البيهقي على الإطلاق، إذ كرس جهده لخدمة هذا العلم الجليل فحقق ودقق، وصنف المجلدات الضخام التي تشهد بغزارة علمه، وسعة اطلاعه.
وقد كانت للبيهقي بين علماء الحديث مكانة لا تسامى، ولا أدل على مكانته تلك من استحقاقه للقب الحافظ، وهو لقب لم يظفر به إلاّ عدد قليل من المحدثين،
ولم يكن مجرد جمع الحديث هو الهدف الوحيد للبيهقي، بل اتجه إلى جانب ذلك، لنقد رجاله، حتى ينفي عنه ما ليس منه، ويبين صحيحه من سقيمه، وكان دائم الحرص على ألا تتضمن كتبه إلاّ ما صح من الأخبار وإن اشتملت على غير ذلك، فمع بيان شاف لدرجة ذلك الخبر، حتى يكون التمييز بين صحيح الأخبار، وحسنها، وضعيفها واضحاً.
وقد ظفرت مؤلفات البيهقي في الحديث بإعجاب العلماء وتقديرهم قديما وحديثا، فقال النووي: إن الحفاظ متفقون على أنه أشد تحريا من أستاذه وشيخه الحاكم أبي عبد الله صاحب "المستدرك".
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في فتاواه: البيهقي أعلم أصحاب الشافعي بالحديث.
ولقبه الأستاذ السيد أحمد صقر في العصر الحديث "بمنظم السنة" لجهوده في تنظيم السنة وتقريبها إلى طلابها.

البيهقي والشافعي

لم تكن رغبة البيهقي في تعلم الفقه، ومعرفة وجوه الاستنباط أقل من رغبته في إتقان صناعة الحديث.
ولذلك اهتم منذ مبدأ أمره بهذا العلم وتلقاه من الشيوخ الكبار في عصره حتى بلغ رتبة الاجتهاد والفتيا، يقول الذهبي: لو شاء البيهقي أن يعمل لنفسه مذهبا يجتهد فيه لكان قادرا على ذلك لسعة علومه ومعرفته بالاختلاف. ولكنه آثر البقاء في حدود المذاهب المعروفة في أيامه ووقع اختياره على مذهب الإمام المطلبي أبي عبد الله الشافعي لأنه رآه بعد المقارنة أقرب إلى السنة والحديث من غيره من المذاهب الفقهية.
فهذا الاختيار من البيهقي لمذهب الشافعي لم يكن إلا بعد دراسة وبحث، ومقارنة وتحقيق، واختبار واقتناع. ولكنه تمسك بمسلك الاعتدال فلم يتعصب لمذهبه يؤيده بحق وبباطل، بل قام يدافع عن كل المذاهب وفقهائها، بنى كل واحد منهم مذهبه على مبلغ علمه من الكتاب والسنة، وقصد قصد الحق في الاجتهاد للمسائل الحادثة. وهو إن شاء الله يكون مأجورا عند الله وإن أخطأ في ذلك.
وبعد أن وقع اختيار البيهقي لمذهب الإمام الشافعي، تجرد للدفاع عنه وعمل على جمع نصوصه، وشرح أقواله، وتبين أرائه، وتأييد مذهبه، وعكف حياته في خدمة مذهبه حتى قال إمام الحرمين أبو المعالي الجويني وقد تملكه العجب من فرط اهتمام البيهقي بأقوال الإمام الشافعي حين ألف كتابه (المبسوط) جامعاً فيه نصوصه في الفقه، فوصفه بقوله: "ما من شافعي إلاّ وللشافعي في عنقه منة، إلاّ البيهقي فإن له على الشافعي منة، لتصانيفه في نصرته لمذهبه وأقاويله".
وقد بلغ من اهتمامه بالفقه أن أفرد بعض مسائله المهمة بالتأليف مثل القراءة خلف الإمام، ومسألة الخاتم، ومن تصانيفه المفيدة في الفقه "المبسوط في نصوص الشافعي"، "ومعرفة السنن والآثار"، و"كتاب الخلافيات بين أبي حنيفة والشافعي". و"أحكام القرآن"، و"بيان خطأ من أخطأ على الشافعي" و"كتاب رد الانتقاد علي أبي عبد الله الشافعي". وغير ذلك.

مؤلفاته

كان للبيهقي إنتاج علمي وفير، أثرى به المكتبة الإسلامية، سيما في مجال الحديث النبوي الشريف، الذي عُنِيَ به عناية فائقة شأنه في ذلك شأن أمثاله من المحدثين العظام، واشتهرت مؤلفاته في حياته وحازت بإعجاب العلماء والشيوخ.
وقد أنعم الله عليه بالقدرة على جودة التأليف وحسن الترتيب، وكتب لمؤلفاته القبول، لإخلاصه النية، وصدقه في العمل.
قال الذهبي: تصانيف البيهقي عظيمة القدر، غزيرة الفوائد، قل من جود تواليفه مثل الإِمام أبي بكر، فينبغي للعالم أن يعتني بها سيما سننه الكبير.
وكانت لمؤلفاته ميزة خاصة انفردت بها، حيث جاءت منظمة تنظيماً دقيقاً لا يكاد يوجد في غيرها، ولذلك وصفت بأنه لم يسبق إلى مثلها.
وهذه المؤلفات كثيرة تزيد على خمسة وعشرين كتاباً، نذكر من أهمها:
1- «السنن الكبرى» مطبوع في 11 مجلدات، وعليه تعليق لابن التركماني سماه «الجوهر النقي» وهو مطبوع بذيله.
2- «معرفة السنن والآثار» مطبوع في 15 مجلد.
3- الجامع لشعب الإيمان. مطبوع في 14 مجلدات.
4- دلائل النبوة. طبع في 7 مجلدات.
5- الخلافيات بين الإمامين الشافعي وأبي حنيفة وأصحابه، طبع في 8 مجلدات.
6- مناقب الإمام الشافعي طبع في جزءين بتحقيق السيد أحمد صقر.
7- الأسماء والصفات.
8- بيان خطأ من أخطأ على الشافعي.
9- حياة الأنبياء في قبورهم.
10- الدعوات الكبير.
11- رد الانتقاد على ألفاظ الشافعي.
12- الزهد الكبير.
13- السنن الصغير.
14- فضائل الأوقات.
15- القراءة خلف الإمام.
16- القضاء والقدر.
17- الاعتقاد.
18- المدخل إلى السنن الكبير.
‌‌وفاته
وبعد هذه الحياة العامرة بالعلم من تصنيف وتحديث وتدريس رحل الإِمام البيهقي عن هذه الدنيا بمدينة نيسابور، حيث كان مجلسه العلمي في عاشر شهر جمادى الأولى سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، ونقل ودفن ببيهق.
وكانت وفاته - رحمه الله - بعد عمر مديد بلغ أربعاً وسبعين سنة كله تعلم وتعليم، وتصنيف وتدريس، فرحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن الإسلام وأهله خير الجزاء.

مواد ذات الصله

المقالات

المكتبة