الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أشعر بحرقة تعتصر قلبي وأفكر في الاعتراف للناس الذين اغتبتهم!

السؤال

السلام عليكم

أرجو أن يتم الرد عليّ بشكل ضروري؛ لأنني في حالة نفسية متأزمة وأريد أن أعرف ماذا أفعل.

أنا لم أكن أعلم أن الغيبة ظلم للناس أبدًا، فلو كنت أعلم لما فعلتها؛ لأني أخشى ظلم أحد وعواقبه، وهي ظلم وتجسس وبهتان، لم أكن أعرف حقيقتها، وكنت أفعلها بجهل، وفي نيتي أنني عندما أستغفر يتوب الله عليّ، ولم أكن أعرف ما هي الغيبة ولا البهتان.

مرة وأنا أتصفح في اليوتيوب بنية التقرب إلى الله ومعرفة أمور ديني، عرفت حقيقتها وانصدمت صدمة شديدة، ودخلت في حالة انهيار، وأتاني الوسواس القهري بشكل أقوى، فأصبحت أحدث عائلتي مرغمة بما في بالي، من أجل أن أرتاح ويساعدوني على فهم أمور ديني.

وفي تلك اللحظة كنت أقول ما في نفسي لكي يساندوني، وفي نفس الوقت وقعت في ذنب وهو الغيبة دون قصد.

أصبحت حائرة لا أعرف ماذا أفعل، ومنذ أن عرفت حقيقتها بدأت أنهى من يفعلها، وأنصح من لا يعرف لكي لا يقع فيما وقعت فيه.

فيا ترى ماذا أفعل؟ إنني في حالة انهيار كبيرة وصدمة ووسواس، وأهلي منعوني من أن أعترف للناس لمصلحتي، فماذا أفعل؟

أرجوكم أنصحوني.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ عائشة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

نشكركم لتواصلكم معنا، وثقتكم بموقعنا.

فهمنا من رسالتكِ -أختي الكريمة- مدى الألم النفسي والحرقة التي تعتصر قلبكِ بعد معرفتكِ بحرمة الغيبة والبهتان، وشعوركِ بالصدمة والانهيار، نتيجة خوفكِ من الوقوع في الظلم، وما تبع ذلك من هجوم الوساوس القهرية عليكِ ورغبتكِ الملحة في الاعتراف للناس طلباً للراحة.

أولاً: أود أن أحييكِ على هذه اليقظة الإيمانية وهذا القلب الحي؛ فإن شعوركِ بالندم الشديد هو علامة على صدق إيمانكِ وخوفكِ من الله عز وجل، فالنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: (الندم توبة).

ويمكن أن ننظر إلى مشكلتكِ هذه من زاويتين:
الزاوية الأولى: الجانب الشرعي والإيماني: فالله عز وجل رحيم بعباده، وقد وضع لنا قواعد واضحة للتعامل مع الخطأ والجهل، يقول الله عز وجل في محكم كتابه: {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}، وفي الحديث القدسي قال الله: "قد فعلت"، فما فعلتِه في حال جهلكِ التام بحقيقة الذنب وعواقبه، يرجى أن يعفو الله عنه، فالله لا يحاسب النفس على ما جهلته ولم تتعمد فيه المخالفة.

أما بخصوص التحلل من المظالم (الغيبة والبهتان)، فقد ذكر العلماء رحمهم الله أن التوبة من الغيبة تكون بالاستغفار لمن اغتبتِه، والثناء عليه في المجالس التي ذكرتِه فيها بسوء، والدعاء له بظهر الغيب، ولا يشترط أبداً إخباره أو الاعتراف له إذا كان ذلك سيؤدي إلى مفسدة أكبر، أو يوغر صدره ويسبب شقاقاً، وهذا يتفق تماماً مع نصيحة أهلكِ لكِ، فهي نصيحة حكيمة شرعاً وعقلاً.

الزاوية الثانية: الجانب النفسي والوساوس
إن ما تمرّين به من رغبة ملحة في الاعتراف وتكرار الحديث مع الأهل، هو نوع من الوسواس القهري، الذي يتخذ من الدين والضمير مدخلاً له، الوسواس يريد أن يقنعكِ أنكِ لن ترتاحي إلا إذا فضحتِ نفسكِ أو أخبرتِ الجميع، وهذا فخ يطيل أمد المعاناة ولا ينهيها، إن اللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء والتوكل عليه ومناجاته هو الملاذ الآمن، وليس كثرة التحدث عن الذنب الذي تبتِ منه.

ومن الأمور التي سوف تعينكِ -بإذن الله- ما يلي:
• اليقين بسعة رحمة الله، وتذكري دائماً قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}، الشيطان يريدكِ يائسة ومنهارة، والله يريدكِ تائبة ومطمئنة.

• لا تفتحي على نفسكِ باب إخبار الناس بما مضى، فستر الله عليكِ نعمة، وإظهار الذنب للآخرين قد يجلب لكِ مشاكل اجتماعية أنتِ في غنى عنها، استبدلي ذلك بالذكر والاستغفار.

• كلما هاجمكِ الوسواس بذنب قديم، قومي بعمل صالح جديد، كصدقة بسيطة، أو ركعتين، أو تسبيح، فالحسنات يذهبن السيئات.

• واجهي الوسواس، وقولي لنفسكِ بصوت واثق: لقد تبتُ إلى الله، والله غفور رحيم، ولن أسمح للشيطان أن يسرق مني طمأنينتي.

• مارسي هواياتكِ، واهتمي بدراستكِ أو عملكِ، واحرصي على صلة رحمكِ، واجعلي لسانكِ رطباً بذكر الله دائماً لتطردي وساوس السوء.

أختي الكريمة، إذا وجدتِ أن هذه الوساوس والأفكار الملحة تمنعكِ من ممارسة حياتكِ اليومية بشكل طبيعي أو تزداد حدتها، فيلزمكِ زيارة أخصائي نفسي، للتقييم والمساعدة في التعامل مع وسواس التأنيب أو الوسواس القهري، فطلب المساعدة المهنية هو من الأخذ بالأسباب التي أمرنا بها ديننا الحنيف.

في لحظات الانهيار والضيق، ليس للقلب ملجأ إلا خالقه، وهذه بعض الأدعية والمأثورات التي تبرد نار القلق في الصدر:
• دعاء الكرب: "لا إله إلا الله العظيم الحليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات ورب الأرض ورب العرش الكريم".
• طلب السكينة: "اللهم إني أسألك نفساً مطمئنة، تؤمن بلقائك، وترضى بقضائك، وتقنع بعطائك".
• الاعتصام من الهم: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، والعجز والكسل، والبخل والجبن، وضلع الدين وغلبة الرجال".
• الاستغفار الجامع: "اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت".

وتذكري دائماً قول الله تعالى الذي يطمئن القلوب الوجلة: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) وكوني على ثقة أن الله يرى صدق قلبكِ، وأنكِ بفعلكِ الآن (نصح الآخرين والابتعاد عن الغيبة) قد بدأتِ صفحة جديدة بيضاء مع الله.

نسأل الله أن ييسر أمركِ، وأن يشرح صدركِ، وأن يهديكِ سواء السبيل، وأن يملأ قلبكِ بالسكينة والأمان.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً