الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الابتلاء بالسحر والعين ونحوها وواجب المؤمن تجاهه

السؤال

الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وبعد:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وأسأل الله العلي العظيم أن يبارك في أعماركم، ويختم لكم بخاتمة السعادة في الدنيا والآخرة، لما تقدمونه من خدمة للإسلام والمسلمين، وأرجو إكراماً لله ورسوله أن يتسع صدركم لسؤالي:

فإن لي قريباً كان قد تقدم لخطبة ابنة أخت له شاب، وقد تمت الموافقة المبدئية، وهو ما يعرف في مجتمعنا بقراءة الفاتحة على هذا الشاب من قبل أهل البنت، بحضور أهل هذا الشاب.

فقام والد الفتاة بعد ذلك بالاتصال بقريبي - خال البنت - لكي يعلمه عن هذه الموافقة، فقال لوالد الفتاة أنه قد تسرع في ذلك، وأنه كان يريدها زوجة لابنه، فما كان من والد البنت إلا أن ألغى اتفاقه، معتذراً لأهل الشاب بأن ابن خالها يريدها لنفسه.

وفي المقابل قام هذا الخال بالذهاب لأهل الشاب؛ لكي يسترضيهم ويطلب مسامحتهم، عملاً بنصيحة أحد الشيوخ، الذي نصحه بفعل ذلك قائلاً له: " إن قراءة ما يعرف بالفاتحة لا ينبني عليه أي أحكام شرعية، وأن كل ما عليه هو أن يسترضي أهل هذا الشاب".

ولكن تلك المبادرة قوبلت بالرفض، وعدم المسامحة من قبل أهل الشاب، بل وصل الأمر بهم إلى أن دعوا عليه، بأن لا يبارك الله لهم فيها؛ لأنهم انتزعوها انتزاعاً منهم، وسرقوها من يدهم على حد تعبيرهم.

وبالفعل تم عقد النكاح لتلك الفتاة على ابن خالها، أما الشاب الآخر فقد تزوج من فتاة أخرى بعد ذلك، وبعد عدة أشهر حلت بقريبي هذا -خال البنت وهو من الأغنياء- ضائقة مالية شديدة، اضطرته في النهاية لعرض منزله الفاخر للبيع؛ لكي يسدد ما عليه من ديون، وهنا بيت القصيد..!!

فكلما جاء أحد لشراء المنزل، وتتم الموافقة المبدئية وقراءة الفاتحة على ذلك، ودفع قسط من ثمن المنزل؛ حتى يعود المشتري بعد فترة قصيرة، لكي يخبرهم بأنه عدل عن رغبته في الشراء، وقد تكرر ذلك الأمر ثلاث مرات إلى الآن.

الأمر الذي جعله يفكر فيما قد كان منه، من موضوع خطبة ابنة أخته لابنه ويعيد حساباته، وهل أخطأ في ذلك الأمر وارتكب أمراً مخالفاً للشرع؟ وهل الشيخ الذي سأله لم يصدقه النصيحة؟ ومما زاد الأمر سوءاً بالنسبة له، حدوث أمر في غاية الغرابة، ألا وهو اشتعال النيران من الأعلى إلى الأسفل بنخلة في المنزل فجأةً وبدون أي مقدمات، الأمر الذي جعله يسقط فريسة للوهم والوسواس.

هل هذا حسد؟ وهل هو عقاب من الله؟ هل أصيب هو وأهل بيته بالعين - جراء عرض المنزل للبيع - ورؤية العديد من الناس له؟ وإعجابهم الشديد به؟ هل هذا بسبب دعاء أهل الشاب المتقدم سابقاً عليهم بعدم البركة؟

أفيدونا بالله عليكم، علما بأن قريبي هذا على خلق، هو وأهل بيته وابنه -زوج الفتاة- وأن الذي دفع به إلى إتمام هذا الزواج من البداية، هو رغبته في أن تعيش ابنة أخته في كنفه، وفي رغد من العيش، وفي إكرام من ابنه الذي يتمتع بقدر عالٍ من الأدب والالتزام والتعليم، ولا نزكي على الله أحداً.

وفي حال كونه قد ارتكب خطأ ومخالفة شرعية في إتمامه لهذا الزواج، فما هي كفارة ذلك؟ وما هو تفسير هذا الاشتعال المفاجئ للنار في النخلة؟

وجزاكم الله كل خير.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم.
الأخ الفاضل/ أبو محمد حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإن الله سبحانه فعال لما يريد، وهو سبحانه لا يُسأل عما يفعل وهم يسألون، والإنسان معرض للبلاء وفيه اختبار للإنسان، كما أن النعم فيها امتحان، قال تعالى: ((وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ))[الأنبياء:35]، والبلاء ينزل على المؤمن وعلى العاصي والكافر، وعندما ينزل البلاء ينقسم الناس إلى طوائف ثلاث:

1- طائفة كانت على الخير والإيمان، فتزداد إيماناً بصبرها على البلاء ورضاها بمر القضاء وهؤلاء بأرفع المنازل.

2- طائفة كانت على الغفلة والتقصير، فتنتبه من غفوتها وتتوجه إلى ربها، وهؤلاء على خير لأنهم فهموا الدرس فرجعوا وتضرعوا، قال تعالى: (( فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ))[الأنعام:42].

3- وطائفة كانت على بعد وشر، فلم تزدد بالمصائب إلا بعداً، ويصدق على هؤلاء قول الله تعالى: (( فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ ))[الأنعام:43].

والسعيد من وعظ بغيره، وما ينبغي للإنسان أن يشمت من أصحاب البلاء؛ لأنه من تقدير الله، وإذا عيّر الإنسان شخصاً بشيء قدره الله، فلن يموت حتى يرى مثله في نفسه أو أهله أو ماله.
ولا شك أن العلاقة وثيقة بين المعاصي وبين المصائب، ولذلك لما قدم الصحابة رضوان الله عليهم العباس ليستسقي لهم قال في دعائه: (اللهم إنه ما نزل بلاء إلا بذنب ولا رفع إلا بتوبة)، وقال تعالى في كتابه: (( فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ ))[العنكبوت:40]، وقال سبحانه: (( فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ))[النساء:160]، وقال سبحانه: (( وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ))[الشورى:30].

والمسلم يتجنب الذنوب ويخاف من آثار المعاصي ويبتعد عن الظلم ويتقي دعوة المظلوم، فإن الله ينصره ولو كان كافراً؛ لأن الله قال: (( أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ ))[النمل:62] ولم يقل: يجيب المسلم، وإنما قال المضطر، وقد قال ابن عباس: (دعوتان أرجو إحداهما وأخاف الأخرى، أما التي أرجوها فدعوة مظلوم نصرته، وأما التي أخافها فدعوة إنسان ظلمته).

ونحن نتمنى أن يكثر هذا الرجل من الاستغفار والتوجه للرحيم الغفار، وأن يملأ نفسه بالرضا بالأقدار، ويحرص على مساعدة المحتاج والجار، ولن يضيع أجره عند ربنا الكريم الرحمن.

ولا يخفى عليكم أن العين حق، وأن السحر يؤثر بتقدير الله، والمؤمن يعصم نفسه بتوحيده لله وبإكثاره من ذكر الله، وبالمواظبة على تلاوة كتاب الله.

(وعجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، أو أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)، ولن يحدث في كون الله إلا ما أراده، ونسأل الله أن يجعلنا جميعاً ممن إذا أعطى شكر، وإذا ابتلي صبر، وإذا أذنب استغفر.

ولا شك أن المؤمن شديد المحاسبة لنفسه، وقاف عند حدود الله، كثير التوبة والرجوع إلى الله، حريص على رد المظالم لأهلها، وليس نزول العقاب على الإنسان دليل على أنه سيء في كل الأحوال، فربما فيه رفعة للدرجات أو تكفير للسيئات.

ولكنه على كل حال مختبر وممتحن، ولكن العاقل يتعظ بما يحدث له أو لغيره، ويرضى بما يأتيه من الله، ويردد في يقين "قدر الله وما شاء فعل"، ويستغفر من الذنوب صغيرها وكبيرها، وليس في الذنوب صغير؛ لأن العاقل لا ينظر إلى صغر الخطيئة، ولكنه ينظر إلى عظمة من يعصيه سبحانه.

ونحن نتمنى أن تقفوا إلى جوار هذه الأسرة التي وقعت عليها هذه النكبات، والمؤمنون كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى، وذلك لأن أمر الزواج مقدر، ولن يحدث في كون الله إلا ما أراده، كما أن دوافعهم كانت طيبة ولم يقصدوا إلحاق الأذى، ولكنها عادات نتمنى أن توضع في قالبها الشرعي حتى لا تصادم الشريعة.

وبالله التوفيق والسداد.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً