الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ابتعدت عن القرآن لأني لا أستطيع ختمه في شهرٍ واحد، فما نصيحتكم؟

السؤال

سمعت من أحد الدعاة يقول بأن أحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل، لكني سمعت أيضاً بأن عدم ختم القرآن الكريم في شهر (أي كل يوم جزء) يعتبر هجراناً له، وأنا بصراحة اتباعاً لهذا القول ابتعدت عن قراءة القرآن فترة من الزمن؛ لأني كلما أتيت لأقرأ أوحى لي الشيطان بأن الجزء طويل، فأقوم بتأجيل القراءة لوقتٍ لاحق، وبالتالي يذهب الوقت دون أن أقرأ ولو صفحةً واحدة منه.

سؤالي هنا: هل أنا فعلاً إذا قرأت صفحاتٍ قليلة من القرآن الكريم أعتبر مذنباً لأني أكون بذلك قد هجرته؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ محمد حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

فإنه ليسرنا أن نرحب بك في موقعك إسلام ويب، فأهلاً وسهلاً ومرحبًا بك، وكم يُسعدنا اتصالك بنا في أي وقت وفي أي موضوع، ونسأل الله العلي الأعلى بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يبارك فيك، وأن يثبتك على الحق، وأن يهديك صراطه المستقيم، وأن يجعلك من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.

وبخصوص ما ورد برسالتك أخي -الكريم الفاضل- أقول لك: إنه مما لا شك فيه أن خير الأعمال وأحبها إلى الله تعالى أدومها وإن قل، وهذا هو نص حديث النبي صلى الله عليه وسلم؛ إذ أن نبيك -صلى الله عليه وسلم- كان عمله ديمة، ومعنى ديمة أنه كان إذا فعل شيئًا داوم عليه، ولذلك كان دائمًا يتخير الأيسر والأسهل؛ حتى لا يشق على أمته -صلوات ربي وسلامه عليه- فإذا ما أكرم الله الإنسان بسنة من السنن فليحافظ عليها، ولا داعي مثلاً لأن يبالغ في الأمر؛ حتى لا يعجز عن أدائه بعد ذلك، فعلى سبيل المثال من الممكن أن نصلي الضحى ركعتين، رغم أنها من الممكن أن تصل إلى عشر ركعات أو يزيد، وبعض العلماء يرى أنه لا حد لها، كذلك صلاة الليل، فبدلاً من أن أقول لا بد أن أصلي إحدى عشرة ركعة، من الممكن أن أكتفي بركعتين غير صلاة الشفع والوتر، وبذلك أكون قد أخذت بقدر بسيط ولم أضيع هذه السنة، ومن الممكن إذا كانت الفرصة متاحة أن أصلي أربع ركعات أو ست ركعات، أو أصلي إحدى عشر ركعة إذا كانت ظروفي مناسبة والجو لدي مهيئًا.

إذاً: الإنسان منا أخي الكريم محمد ينظر في حال نفسه، فإذا وجد لديه نشاطًا واستعدادًا وكانت الفرصة مواتية فعليه أن لا يحرم نفسه الخير والأجر، أما إذا كانت ظروفه غير طبيعية ولديه التزامات هي أهم من هذه السنن، فلا بد أن يرتب المسألة الأهم فالمهم.

فيما يتعلق بالقرآن الكريم، فالذي ألقاه الشيطان في قلبك هو من خطواته، حتى إنه ليزين لك فعلاً بأن الكلام الذي قاله الداعية حق، وأنه إذا لم تقرأ القرآن كل شهر، فإنك ستكون هاجرًا للقرآن، وجاءك من هذا الباب حتى صرفك بالكلية عن القراءة ولو أقل قدر من القراءة، وهذا كما تعلم من مداخل الشيطان؛ لأن الشيطان لا يأتي للإنسان ليقول له اكفر مرةً واحدة، وإنما يبدأ معه خطوة خطوة، ويظل يستدرجه من الصغائر إلى الكبائر، والكبائر أنواع، ومن الكبيرة التي ليس فيها حد إلى الكبيرة التي فيها حد، ثم يصل بعد ذلك والعياذ بالله إلى الكفر وإخراج العبد من الملة.

فالشيطان الآن بهذا التزيين قد صرفك عن قراءة القرآن بالكلية، وبذلك استراح الشيطان منك؛ لأنك كنت تستفيد أو تحصل على ملايين الحسنات يوميًا، فأصبحت لا تحصل ولا على حسنة واحدة؛ لأنك تعلم أن من قرأ حرفًا من كلام الله تعالى فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، فعلى سبيل المثال: (بسم الله الرحمن الرحيم) هذه ثمانية عشر حرفًا، إذا ضربتها في عشرة صارت مائة وثمانين حسنة، وهذه حرمك الشيطان منها، ولذلك أقول لك بارك الله فيك:

حاول أن تجتهد، ولا تجعل التقصير هو شعارك وطبيعتك، وإنما اجعل الأمر حسب ظروفك، ولكن ضعه في اعتبارك، واحرص على أن لا يمر عليك يوم إلا وقد قرأت شيئًا من القرآن، وإن كانت الفرصة مواتية لقراءة جزء أو جزءين أو أكثر فلا تحرمنّ نفسك من الأجر؛ لأن هذه القراءة عبارة عن رصيد يُضاف إلى ميزان حسناتك، وهي حسنات تدخرها في خزائن أعمالك إلى يوم القيامة، فإذا كانت الفرصة متاحة لك، كأن تكون النفس مستريحة ومطمئنة، وأن يكون الوقت عندك من الممكن أن تأخذ منه قدرًا لقراءة أكثر من الجزء فلا مانع، وإذا كانت الظروف لا تسمح إلا لجزء فلا مانع أيضًا، وإذا كانت الظروف لا تسمح إلا لنصف جزء أو ربع جزء أو حتى صفحة واحدة فلا مانع أيضاً، المهم أن لا تحرم نفسك -أخي الكريم- محمد.

بعض العلماء فعلاً يعتبر أن عدم ختم القرآن في شهر يعتبر هجرًا، وهذا نوع من الاجتهاد، ولكن هناك من الصحابة من كان يختم مثلاً في أسبوع، ومنهم من كان يختم في ثلاث ليال، ومنهم من كان يختم في خمسة عشر يومًا، بل بعض العلماء قال من الممكن أن يختم في سنة، إذن الأمر ليس فيه تحديد شرعي دقيق من قبل النبي عليه الصلاة والسلام بالمقدار الزمني الذي يقرأ فيه القرآن، وإنما بيّن النبي عليه الصلاة والسلام بالحد الأدنى وهو ثلاث ليال، ولم يبين الحد الأعلى، وإنما ترك الأمر لظروف الإنسان، وهذا ما قرره القرآن، قال تعالى: {فاقرؤوا ما تيسر من القرآن علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرؤوا ما تيسر منه}.

فأنا أقول لا تحرمنّ نفسك الأجر -أخي محمد-، واجتهد واعلم أن قراءة القرآن من أعظم العبادات ومن أجل القربات، وأن الثواب المترتب عليها لا يترتب على غيرها من سائر الأعمال، ألم تسمع قول الله تعالى: {ولذكر الله أكبر} والقرآن الكريم سماه الله -تبارك وتعالى- ذكراً، وأثنى عليه ثناء عظيمًا، فأتمنى أن لا تحرم نفسك ذلك، ولكن لا تقف عند قول بأنه إذا لم تقرأ القرآن في شهر تكون هاجرًا، لأن هذا كما ذكرت لك من تلبيس إبليس، وإنما اقرأ وضع في اعتبارك أن لا تهجر القرآن الكريم ولو صفحة يوميًا فعلاً، وأتمنى أن تستغل الأوقات ما بين الأذان والإقامة، فإنك لو حرصت أن تأتي مبكرًا مع الأذان ستقرأ الجزء وأكثر منه دون أي تكلف، وفي الوقت الذي نعتبره ضائعاً بالنسبة لبقية الأعمال؛ لأنك ستكون في المسجد.

أتمنى أن تستفيد من الفراغ ما بين الأذان والإقامة، وأن لا تحرم نفسك الأجر، وإذا أردت الحفظ فابدأ بأول النهار، واجعلها ولو عشر دقائق أو ربع ساعة أو نصف ساعة حسب الميسور، ولكن لا تتوقف عن القراءة؛ لأن القرآن للإيمان كالماء للزرع.

أسأل الله تعالى أن يثبتك على الحق، وأن يحبب إليك تلاوة القرآن.

هذا وبالله التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك
  • الأردن ناصر

    الله يجزيكم الخير يارب

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً