الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

ما زلت أنتظر دعوتي أن تتحقق، فما نصحكم لي؟

السؤال

السلام عليكم

الحمد الله أنا شاب مؤمن بالله وثقتي بربي كبيرة، لدي مشكلة غيرت حياتي الأسرية والنفسية والعملية للأسوأ، دعوت ربي دعوة أن يحققها لي في الدنيا، وتحريت كل أوقات الاستجابة منذ سنين، وإلى الآن لم تتحقق.

المشكلة ليست هنا، المشكلة أنني أهملت حياتي الأسرية والعملية، وأنتظر هذه الدعوة بكل ثقة أنها سوف تتحقق، وأنا لا أعلم الغيب، ولكن بداخلي إحساس وفرح أكيد أن دعوتي ستتحقق قريبا.

أكثر من مرة أقول لنفسي: لو جاءت هذه الصورة في التلفاز الآن أو لو وصلني شيء معين أذكره فهذا معناه أن دعوتي سوف تستجاب لي في الدنيا، ويكون موعدها قريب، وسبحان الله يحصل هذا الشيء.

تعبت كثيرا جدا وأنا أفكر في هذه الدعوة، وأمنية حياتي أن أنساها لكي أرتاح من التفكير وأنظر لمستقبلي، ولكنني -للأسف- لم أقدر، أريد حلا ينهي معاناتي مع هذه الدعوة.

السؤال الثاني: أتمنى ربي يسامحني على هذا السؤال، ربنا سبحانه بيده كل شيء: الأرزاق، والقدر والحياة والموت، لا يوجد أي شي صعب على ربنا، وهذا لا يوجد فيه خلاف.

لماذا لو الإنسان دعا ربه بأي شيء ولم تستجاب دعوته نقول: يمكن ليس فيها خير له في الدنيا لو ربنا رزقه إياها، (على سبيل المثال: لو الإنسان دعا ربه بأن يرزقه ثروة كبيرة جدا ولم تتحقق هذه الدعوة) نرى أن أغلب العلماء يقولون: يمكن يكون لا خير فيها في الدنيا؛ لأن ربنا لو رزقك إياها ستموت أو تطغى، أو يحصل لك مصيبة.

الله سبحانه وتعالى بيده كل شيء، من الممكن أن يرزق الإنسان خيرا كثيرا ويستجيب له دعوته، ولو وجده أنه سيطغى سوف يرده لطريق الصواب، ولو وجده سيموت يمكن أن يطيل في عمره، وإن رآه ستحصل له مصيبة فقد يزيلها عنه، لأنه سبحانه بيده كل شيء، فلماذا نربطها بسبب عدم الاستجابة؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ وليد حفظه الله
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد:

استشارتك احتوت على سؤالين وفيهما تداخل:
فجواب الأول: اعلم -وفقك الله- أن الله قدر الأقدار وربطها بأسبابها فإذا وجد السبب وقع القدر، وجعل ذلك غيبا لا يعلمه أحد، وأمر الله الخلق أن يعملوا بأسباب النجاة، وتحقيق الخير، ويبتعدوا عن أسباب الهلاك والوقوع في الشر، كل ذلك ضمن منضومة القدر التي كتبها الله في اللوح المحفوظ قبل خلق السموات والأرض.

ولأهمية هذا الأمر كان الإيمان بالقدر خيره وشره ركنا من أركان الإيمان، لا يصح إيمان الإنسان إلا به، والمطلوب من العبد أن يجتهد في الأخذ بأسباب تحقق أمنياته قدر الاستطاعة، ولا ينسى استمطار التوفيق من الله له كي تحقق أمنيته بالدعاء والتضرع إليه سبحانه، فيجمع بين كمال التوكل على الله ودعائه، وبين أخذ الأسباب المادية المتاحة لتحقق أمنيته ورغبته.

فهذا مقتضى الشرع، فمن اعتمد على الأسباب المادية فقط فقد أخل بالتوحيد، ومن ترك الأخذ بالأسباب المادية فقد تواكل، ولا يجوز التفريق بينهما لأنهما مرتبطان ببعض لتحقق القدر المكتوب.

وقد قال أعرابي لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (هل أعقل ناقتي أم أتوكل وأتركها)، قال له -صلى الله عليه وسلم-: (اعقلها وتوكل) أي خذ بالسبب المادي لحفظها مع كمال اعتقادك أن الله هو الحافظ وليس السبب وحده.

وبناء على ما سبق: فتصرفك مع أمنيتك بالاكتفاء بالدعاء فقط، وانتظار النتيجة مع إهمالك للأسباب المادية فيه خلل في فهم علاقة الأسباب بمسبباتها.

لذا عليك أن تعيد النظر في ذلك، فتستمر بالدعاء، وتأخذ بالسبب المادي وتعتني بأهلك، ولا تهملهم انتظارا لاستجابة دعائك، فاحتمال ألا يستجيب الله لك تلك الدعوة، واحتمال أن تلك الأمنية مرتبط تحقيقها بوجود سبب مادي يجب أن يتوفر بجوار الدعاء لتحقيقها، واحتمال تلك الأمنية ليست مقدرة لك، ولا مكتوبة في اللوح المحفوظ، ولا تسأل لماذا؟ فالله لا يسأل عما يفعل، وهو العليم الحكيم.

أما السؤال الثاني: فهو ناتج عن خلل في مفهوم القضاء والقدر، قلة علم بالشرع والغاية والحكمة من خلق الإنسان في الدنيا، وقد بينا لك علاقة الدعاء بالقدر في إجابة السؤال الأول، ولو علمت الغاية من خلق الإنسان في هذه الحياة وسنن الله في الابتلاء والتكليف لذهبت عن الشبهة التي أثرتها، ولما احتجت إلى تلك التساؤلات التي أجبت عنها بإجابة غير صحيحة.

فالله خلق الإنسان في هذه الحياة للابتلاء والاختبار بالشر والخير، وأعطاه قدرة ومشيئة لتمييز الخير من الشر، وأرسل له الرسل وأنزل الكتب، وبين له الحق من الباطل والهدى من الضلال، ثم تركه يختار طريقه بنفسه، قال سبحانه ﴿وَهَدَيناهُ النَّجدَينِ﴾، [البلد: 10]، وقال: ﴿إِنّا هَدَيناهُ السَّبيلَ إِمّا شاكِرًا وَإِمّا كَفورًا﴾، [الإنسان: 3].

وعلى ضوء اختياره يكون مصيره في الآخرة إلى الجنة أو إلى النار، إذا فالحياة الدنيا دار اختبار، والله جعل هذا الاختبار إلى العبد يمارسه باختياره ويتحمل نتيجته في الآخره.

وبهذا يفهم أن الدنيا دار اختبار وعمل وليست دار نعيم يتم للعبد ما يريد فيها، حتى ولو تعارضت إجابة دعائه مع واقعه، يجب أن يصلح له ربه ذلك الواقع، مع كما تصورت ذلك من إجاباتك على أسئلتك المفترضة.

نعم الله بيده كل شيء وقادر على إسعاد الإنسان بالدنيا واستجابة دعائه دون تخلف، لكن هذا خلاف ما أراده الله من خلق الدنيا دار ابتلاء، وخلاف الغاية من خلق الإنسان فيها للابتلاء.

أما الآخرة فهي دار جزاء ونعيم مقيم لأهل طاعته ورضوانه في الدنيا، لذلك فطلباتهم تتحق في لمحت بصر في الجنة، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون.

وهذا هو الفرق ببن الدنيا والآخرة، لكنك بتصورك السابق تريد أن تغير نظام الكون وسنن الله فيه، حتى تكون الدنيا مثل الجنة يتحقق للعبد فيها كل شيء بناء على أن الله قادر عل كل شيء.

ونسيت الغاية والهدف من خلق الدنيا، وإهباط آدم من الجنة إلى الأرض ليعيش مرحلة الابتلاء مع ذريته فيها، ثم من نجح في هذا الابتلاء دخل الجنة التي لا تكاليف فيها ولا ابتلاء بل نعيم مقيم، وبهذا تفهم الحكمة من عدم الاستجابة للدعاء أحيانا لأنه ضمن دائرة الابتلاء، وهو كذلك ضمن دائرة الأقدار المكتوبة للعبد، فقد يطلب الإنسان شيئا لم يقدره الله له ولا كتبه له في اللوح المحفوظ، فلا يتحقق طلبه، وإنما يعطيه الله غيره لأنه حكيم عليم لما يصلحه.

فقد ثبت عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قَالَ: (مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَدْعُو بِدَعْوَةٍ لَيْسَ فِيهَا إِثْمٌ، وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ، إِلَّا أَعْطَاهُ اللهُ بِهَا إِحْدَى ثَلَاثٍ: إِمَّا أَنْ تُعَجَّلَ لَهُ دَعْوَتُهُ، وَإِمَّا أَنْ يَدَّخِرَهَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَإِمَّا أَنْ يَصْرِفَ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا، قَالُوا: إِذًا نُكْثِرُ، قَالَ: اللهُ أَكْثَرُ).

يقول الشيخ ابن باز رحمه الله: "الإلحاح، وحسن الظن بالله، وعدم اليأس، من أعظم أسباب الإجابة، فعلى المرء أن يلح في الدعاء، ويحسن الظن بالله -عز وجل-، ويعلم أنه حكيم عليم، قد يعجل الإجابة لحكمة، وقد يؤخرها لحكمة، وقد يعطي السائل خيرا مما سأل". مجموع فتاوى ابن باز " (26/ 122).

والمقصود أن عدم استجابة دعاء العبد له أسباب عدة، وله حكم متعددة، لا مجال لسردها هنا، وليس بالضرورة أن يكون ما ذكرت من شبهة هو السبب الوحيد، ثم علينا أن نعتقد أن الله سبحانه هو المالك المتصرف الحكيم العليم، الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل، ونستحضر عظمته وصفاته عندما نفترض عليه أو نقترح عليه ما تهواه أنفسنا، فنترك ذلك تعظيما لله سبحانه، حتى لا ندخل في حال من وصفهم سبحانه بقوله: (وما قدروا الله حق قدره).

وفقنا الله وإياك للعلم النافع والعمل الصالح، وحفظنا الله وإياك من مضلات الفتن ما ظهر منها وما بطن.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات