الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف أخرج من دائرة الندم وجلد الذات؟

السؤال

السلام عليكم..

جزاكم الله خيرا، وبارك فيكم، ورزقكم الجنة.

فضيلة الشيخ: توفي زوجي منذ حوالي ستة شهور بعد معاناة مع المرض، وكنت أرافقه في المستشفى خلال 9 شهور وعشرة أيام، طوال هذه المدة كنت عطوفة رحيمة به، والجميع يشهد أني كنت معه بمنزلة الأم، ولكن كانت حالتي النفسية سيئة جدا؛ أغضب بسرعة من أهله أو من الأطباء، خاصة أن صحته تدهورت بالتدريج: ( نزيف في الدماغ، وجلطات، وفقد تام لبصره، وانفصام في شخصيته، والتهابات بمختلف أنحاء جسمه، وتكرار الحمى والصدمات الإنتانية، حتى أصبح معه التهاب رئوي واستسقاء في بطنه مع إسهال شديد أدى لوفاته رحمه الله)، وكل هذا كان يحدث أمام نظري، قبل وفاته بأيام اشتد ألمه، وساءت حالته، ورفض الطعام (لعدم قدرته على البلع دون أن أعلم) وكذلك ساءت حالتي جدا، وبدأت أصرخ عليه وأتذمر من بكائه وضعف حالته، وقلت له: أنك لا تحبني؛ لأنك ورطتني معك في هذا الزواج، فبكى، لكن يشهد الله أني كنت أحبه، وكنت مستعدة لإعطائي روحي لأجله، ولم أكن أستطع الابتعاد عنه، ولو لساعات قليلة.

مشكلتي أني ما زلت أشعر بالندم، وأجلد نفسي على إساءتي له آخر الأيام رغم اعتذاري منه قبل خروج روحه، وكذلك أشعر بتقصير كبير تجاه أبي وأمي وأخي رحمهم الله بعد وفاتهم، ولا أذكر جانب الخير الذي فعلته تجاههم، بل جلد لذاتي وندم وحزن أدى إلى انطوائي واعتزالي الناس، فهزل جسمي حتى أصبحت مخيفة، رغم دعائي المستمر، و الصدقة عنهم، فكيف أخرج من هذه الحالة، وأعود إلى الحياة بحيوية ونشاط؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ ألاء حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أتفهم مشاعرك - يا ابنتي- وهي مشاعر مرهفة وصادقة بدون شك، وفي البداية أود أن أشكرك على حسن تعاملك مع زوجك -رحمه الله- وجعل الله عز وجل عملك هذا في ميزان حسناتك يوم القيامة.

وفي الحقيقة أن الظروف التي مررت بها ليست سهلة، ومن دون شك أنك إنسانة مميزة بتحملك وصبرك وعطائك، فنحن نعلم بأن الجميع يركز كل اهتمامه في مثل هذه الظروف على الشخص المريض فقط، وقد لا يلتفت أحد إلى ما يعانيه الشخص الذي يعتني بهذا المريض.

إن الشخص الذي يعتني بالمريض ويقضي معظم الوقت بجانبه يستحق الاهتمام، ويجب الانتباه إليه أيضا؛ لأنه عادة ما يكون مرهقا جسديا ومتألما نفسيا، خاصة إذا كان المريض من أهله وأحبائه هنا تكون معاناته مضاعفة، لذلك فإنه يكون أيضا بحاجة إلى الاهتمام والدعم النفسي حتى يستمر في أداء هذا العمل، وتحمل الضغوط، وتجاوز الآزمة، ولعلك لم تتلقي مثل هذا الدعم النفسي أو التقدير الكافي خلال تلك الفترة، وهذا ما قد يكون سببا في حدوث ضغوط نفسية إضافية عليك أدت إلى حدوث نوبة غضب مفاجئة عندك، لكنها نوبة قصيرة وعابرة.

ومن خلال رسالتك أرى بأنك تملكين شخصية نسميها طبيا ب(الشخصية الودودة )، وهذه الشخصية تتميز بصفات جميلة:
هي شخصية معطاءة، مضحية، لا ترد طلب، ولا تقول كلمة (لا)، كثيرة التعاطف مع الآخرين، تشعر بآلام الآخرين، وتقدم حاجاتهم على حاجاتها، وهذه الصفات هي صفات جميلة ومطلوبة، وهي علميا تعتبر صفات تطورية في الإنسان وتميزه عن باقي الكائنات.

ولكن بالطبع فإن صاحب هذه الصفات الجميلة قد يتم اسغلاله من قبل الآخرين في ظروف معينة، فيشعر حينها بالعجز، وأنه تحت ضغوط لا يستطيع التعامل معها، فتنعكس سلبا على حالته نفسيته، وتؤدي إلى ما أنت عليه الآن.

نصيحتي لك -أيتها العزيزة-: هي بمسامحة نفسك على ذلك الموقف الذي كان ناتجا عن تعرضك للإرهاق النفسي والجسدي، وعن عدم وجود من يهتم بك في خلال تلك الفترة العصيبة، وتذكري بأنه كان موقفا مفردا وغير متكرر، وقد قمت بعده بالتصرف الصحيح والحضاري وهو الاعتذار، وهذا يعتبر كاف.

ولمساعدتك أقول لك: عندما تنتابك مشاعر الندم وتأنيب الضمير قولي لنفسك بصوت تسمعينه أو يمكنك كتابة ذلك على ورقة تضعينها على مقربة منك وتقرئينها في تلك اللحظات: ( أعلم بأن ما يراودني الآن من أفكار ما هو إلا أفكار غير حقيقية وغير منطقية، ولا تمت إلى الواقع بصلة، فالطبيبة قد أكدت لي بأن شعور الغضب الذي انتابني هو شعور طبيعي يحدث عند كل إنسان، والإنسان الطبيعي والناضج هو الذي يتحكم بغضبه أو يعتذر عن خطئه، وأنا فعلت ذلك، فلم أترك زوجي يسيء فهم كلماتي، ولم أهمل مشاعره، ولم يصدر مني أي تصرف خاطئ قبل أو بعد ذلك، وكل ماحدث هو أن مشاعري خرجت عن سيطرتي للحظات، وهذا بسبب ما كنت أعانيه من تعب وإرهاق، لكنني تداركت الأمر، وتحكمت بنفسي، وقدمت الاعتذار لزوجي مباشرة، فإذا لم يقبل اعتذاري فهذا لن يكون خطئي، لذلك لن أدع هذه الأفكار الإلحاحية تأخذ حيزا كبيرا في ذهني، بل سأدعها تمر مرورا عابرا ولن أتعمق فيها)، ثم انهضي من مكانك وغادريه إلى مكان آخر، وأشغلي نفسك بعمل تحبينه مثل: تحضير كوب شاي، أو وجبة طعام، أو مهاتفة صديقة تحبينها، أو الخروج للتنزه، أو ممارسة الرياضة، أو أي عمل آخر تحبينه ويناسب ظروفك، هنا سيحدث تشتيت لتلك المشاعر والأفكار، وستنصرف عن ذهنك وسيحل مكانها أفكار جديدة، ومع التكرار سيتشكل في ذهنك منعكسا عصبيا جديدا يجعلك تشتتينها قبل تمكنها منك، والمهم هو أن تنجحي في أول مرة؛ لأن النجاح الأول سيعطيك دفعة إلى الأمام، وسيجلب لك نجاحات أخرى، وهذا سيزيد ثقتك بنفسك، وسيعيد لك تقديرك لذاتك.

وإن كان لديك صديقة أو قريبة تثقين بها، ويمكنك التحدث إليها عما ينتابك من أفكار فافعلي؛ لأن ذلك سيساعدك في تفريغ مشاعرك، وهذه القريبة أو الصديقة ستؤكد لك دائما بأنك إنسانة طيبة ومخلصة وبأنك قد أديت واجبك نحو زوجك على أكمل وجه، بإذن الله تعالى.

أنت - يا ابنتي - حقا إنسانة مميزة، ويجب أن تكوني فخورة بنفسك وراضية عنها بعد كل ماقمت به نحو زوجك، وتأكدي بأنك ستؤجرين على كل شيء، بل وستؤجرين حتى على شعورك بالندم وتأنيب الضمير، فألم هذه المشاعر لن يضيع عند رب العالمين.

إذا استمرت عندك تلك الأفكار التي تشعرك بالذنب وبالتقصير، وأصبحت تؤثر على حياتك اليومية وعلى علاقاتك بالآخرين، فهنا يصبح من الضروري تناول العلاج الدوائي، وهنالك العديد من الأدوية المفيدة لحالتك مثل: ( بروزاك, زولفت, افكسور, ...) وهي آمنة بإذن الله تعالى، لكن يجب عليك أولا تجربة الخطوات السابقة.

أتمنى لك دوام التوفيق إن شاء الله تعالى.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً