الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أعاني من التأتأة التي سببت لي سوداوية الحياة.

السؤال

السلام عليكم..

أنا شاب أبلغ من العمر 17 سنة، وأعيش في فلسطين المحتلة، وعندي مشاكل كثيرة، ورغم صغر سني إلا أنها تمنعني من العيش كباقي الشباب والفتيان.

المشكلة هي أنني أعاني من مشاكل نطق مثل التأتأة والتلعثم وتأخر النطق، ولكن عندما كبرت تحسن نطقي قليلا، كما أعاني من الاضطرابات الذهانية مع الشرود الذهني (التشتت الذهني وفرط الحركة ADHD)، وهذه المشاكل التي أعاني منها هي دائما تعيقني وتمنعني من العيش كباقي الآخرين، وجميع من حولي لا يعلمون مدى الألم الذي أشعر به، وينعتوني "بالشخصية الضعيفة"، مع أنني أكثرهم قوة، ولا أملك أصدقاء، وينتابني شعور بأني لن أتزوج، وسأبقى هكذا طول حياتي.

ولكنني صبور، وأعلم أن الله يبتليني لأنني أتحمل مصاعب الحياة، وأعلم أن هذه الدنيا مجرد دار اختبار وستفنى، وكل عبد سيأخذ مكافأته، ولكنني أفكر بالانتحار كثيرا بسبب المشاكل التي أعاني منها، وعدم تفهم وعدم تقبل الناس لي، لا أعرف ماذا أفعل؟ هل هذا اختبار من الله أم عقاب من الله؟ مع أنني لم أفعل شيئا، وأنا في أول عمري.

لماذا الله يبتليني بكل هذا؟ لقد تعبت، ولكن سأصبر ولعل الله يعوضني عن شيء لا يملكه الشباب الآخرين، وأنا قلق جدا وحزين لأنني لست كغيري، وأعلم أنني لن أتزوج في المستقبل إن بقيت في هذه الحال، وتأتيني أفكار كثيرة، كالزنى إن لم أستطع الزواج، وأنا مقهور للغاية، ولكني صبور، فماذا أفعل؟

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ إبراهيم حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أرحب بك في الشبكة الإسلامية، وأسأل الله لك العافية والشفاء والتوفيق والسداد.

وأنا حقيقة أُبشِّرُك أن الحياة أفضل ممَّا تتصور، وأنت نفسك – إن شاء الله تعالى – أفضل ممَّا تتصور.

الفكر السلبي الوسواسي هيمن عليك، ولذا جعلك تحسّ بكل هذه المضايقات وكل هذا الانهزام وكل هذا التشاؤم. الله تعالى أعطانا القدرة وأعطانا الإرادة لأن نتغيّر، وأكد على ذلك بقوله: {إن الله لا يُغير ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفسهم}، وكلَّفنا بما نستطيع وقال: {فاتقوا الله ما استطعتم}، وقال: {لا يكلف الله نفسًا إلَّا وسعها}.

الله تعالى استودع فينا طاقات الاستطاعة، وهي كثيرة، واستودع فينا مهارات كثيرة، كثيرًا ما تكون هذه الطاقات والمهارات مختبئة، فالإنسان بقوة العزيمة وبالتوكل وبالإصرار وبتحديد أهدافه في الحياة، وأن يضع الآليات التي تُوصله إلى هذه الأهداف، يستطيع أن يتغيّر ويعيش حياة طيبة.

مثلاً: أنت في حالتك هذه يجب أن يكون هدفك هو التميُّز الدراسي، التميّز العلمي، الحرص على أمور دينك، برّ والديك ... هذه أهداف وأهداف عظيمة جدًّا، فأنت حين تضع هذه المقاصد العظيمة المُهمَّة؛ حين تضعها نصب عينيك وتجعلها هي المُحرِّك لحياتك قطعًا الطبقات الدُّنيا من هذا الفكر السلبي سوف تتآكل وتنتهي.

الآن هذه السلبيات تعاظمت وتكاثرت لأنك لم تُفكّر في الجوانب الحياتية الإيجابية الأخرى، هيمنَ عليك الوساوس وهيمنت عليك السلبيات.

فيا أيها الفاضل الكريم: عليك بإجراء عملية التغيير هذه، واجعل نمط حياتك كلُّه إيجابيًّا، نظم وقتك، هذا مهمٌّ جدًّا.

ومن خلال تنظيم الوقت يمكنك أن تستمتع بالحياة، تمارس أي شيء: القراءة، العبادة، الرياضة، الترفه عن النفس بما هو طيب وجميل، مجالسة الأصدقاء، بر الوالدين ... المهم أن يكون هنالك تنظيمٌ للوقت، ويكون هنالك تحديد للأهداف النبيلة، وهي واضحة جدًّا، كلُّ شيء له مقابل في هذه الدنيا، الشرُّ يقابله الخير، والفشل يُقابله النجاح، والحرام يُقابله الحلال، وهكذا، ونحن يجب أن نتخيّر ما هو طيب وجميل دائمًا.

أمرٌ استوقفني جدًّا: أنت ترى أنك تعاني من أمراض الاضطرابات الذهانية، مَن الذي قال لك هذا؟ الاضطراب الذهاني يعني أنه مرض عقلي، أنا لم أحسّ أنك تعاني من مرض عقلي أبدًا، والتشتت الذهني وفرط الحركة هذه متلازمة مرضية، هذا تشخيص له معاييره، مَن الذي قال لك أنك تعاني من هذا الشيء دون أن تُقابل مختصًّا؟ الشرود الذهني الذي تعاني منه هو من القلق، القلق يجعل الأفكار تتداخل، يجعل الأفكار واهية، يجعل الأفكار تتسابق، وأنت لديك أفكار وسواسية كثيرة، وهذا كلُّه يزيد من قلقك.

فيا أيها الفاضل الكريم: أنا لا أرى أنك تعاني من الذُّهان، فأرجو أن تُصحح مفاهيمك، أنت تُعاني من قلق وسواسي مع أفكار سلبية حول الذات، هذا هو الذي تعاني منه، وأنا أرشدتُّك تمامًا بالوسائل العلاجية الفعّالة، وأنت قد تكون محتاجًا لدواء، دواءً بسيطًا جدًّا، يمكن أن تذهب للطبيب النفسي أو لأي طبيب، طبيب الأسرة يمكن أن يعطيك أحد مُحسّنات المزاج ومُزيلات الوساوس، عقار مثل (فافرين) أو عقار (سيرترالين) سيكون أحدهما مفيدًا جدًّا بالنسبة لك، وكلها أدوية سليمة وغير إدمانية، وأنت تحتاج لدواء واحد وليس أكثر من ذلك.

الفكر السخيف الذي يأتيك عن الزنى لأنك لا تستطيع أن تتزوج: هذه كلها وساوس سلبية سخيفة، لا أساس لها، لا تهتمَّ بها، وانصرف عنها، وفكّر في غيرها فكرًا إيجابيًا بأن الله تعالى سيُعينك على العفاف، وأنه في عونك ما دمت تريد العفاف، قال الله تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، وهذا وعدٌ منه سبحانه، {حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}، ووعد فقال: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} واسع الأرزاق كثير الفضل، عليمٌ بمَن يريد العفاف.

أيها الفاضل الكريم: سعدتُّ بك وبمشاركاتك، وأسأل الله تعالى أن تنتفع بما ذكرتُه لك من إرشاد، وعليك بالتطبيق.

بارك الله فيك، وجزاك الله خيرًا، وبالله التوفيق والسداد.
________________________________________
انتهت إجابة الدكتور/ محمد عبد العيم -استشاري أول الطب النفسي وطب الإدمان-.

وتليها إجابة الشيخ/ عقيل المقطري -مستشار العلاقات الأسرية والاجتماعية.
________________________________________

فمرحبا بك -أخي الكريم- وردا على استشارتك أقول:
اعلم أن كل شيء بقضاء وقدر، فما قدره الله على عبده سيكون كما قال عليه الصلاة والسلام: ((واعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك رفعت الأقلام وجفت الصحف)).

على العبد أن يرضى بما قدره الله له، ولا يتسخط أبدا، فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط، والابتلاء إنما يكون لمن أحبه الله سبحانه ليرفع درجاته وليكفر من سيئاته ففي الحديث: ((إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلاءِ، وإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلاهُمْ، فمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَا، وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ)) فعليك أن ترضى بقضاء الله وقدره وحذار أن تتسخط وإلا فالجزاء من جنس العمل.

ما يخص التأتأة في الكلام: قد يكون له عامل وراثي، ولكن في الجملة فيما أعلم أنه يمكن علاجه من خلال بعض الأطباء المختصين، أو بعض المراكز المتخصصة في هذا كما يمكن في نظري من خلال ممارسة القراءة بصوت مسموع دون الرجوع للوراء، سواء كان النطق صحيحا أو خطئا، وعليك أن تقرأ في كتب القصص والروايات والجرائد؛ لأن الخطأ فيها مغتفر.

لا تخجل من التواصل مع الناس والاجتماع بهم؛ لأن الخجل يعمق المشكلة عندك، فمسألة التأتأة لم توجدها أنت، والذي يضحك لا يضحك عليك في الحقيقة، وإنما يضحك على ما خلقه الله وأوجده، ولو تمعن هذا الضاحك لوجد في نفسه عيوبا مستورة لعلها أكبر مما عندك، فليحمد الله العبد على نعمه وستره، ولك أن تصد من يحاول الضحك بكل شجاعة فتقول: (أتعيبون الخلق أم الخالق).

يجب أن تكون شجاعا وجريئا؛ فأنت لم ترتكب جرما، ولم تفعل حراما، وهذه الجرأة والشجاعة ستعينك على اجتياز العقبة، وعليك أن تتكلم دون تردد، ولا ترجع في الكلام إلى الوراء.

يجب أن يكون تفكيرك إيجابيا، وألا تستبق الأحداث، واحذر من الرسائل السلبية لما لها من الآثار السيئة، فقولك أشعر أني لن أتزوج رسالة سلبية وسيئة؛ لأن العقل يستقبلها ويتفاعل معها، ثم يعطي إشارات لبقية أعضاء الجسد بتقبلها، فيتبلد لديك الإحساس والرغبة في الزواج، بل يجب عليك أن ترسل لنفسك الرسائل الإيجابية من أنك ستشفى، وأن هذه العلة ستزول، وأنك ستتزوج وتبني بيتا بإذن الله تعالى.

أعرف أناسا عندهم هذه المشكلة، ومع هذا فهم متزوجون ويعيشون بسعادة غامرة، فالشجاعة والجرأة والإقدام أمر مهم في اجتياز هذه العلة.

لا تركز تفكيرك في مسألة التأتأة؛ فإن تعمق الفكرة يجعل لسانك حين تتكلم تتلكأ ويجعل النطق صعبا.

انظر إلى الحياة بإيجابية، واستنهض ما أودع الله فيك من الصفات الإيجابية الكامنة، وكن على يقين أن حياتك ستتغير بإذن الله تعالى، ولعلك إن نظرت إلى من حولك من المعاقين وكيف أنهم يمارسون حياتهم بكل إيجابية: فذاك الذي يسير على العربة الكهربائية، وذاك الأعمى والأعجم ومع هذا يمارسون حياتهم بشكل اعتيادي ولديهم أسرهم وراضون بما قسم الله لهم.

انظر دائما إلى من هو أدنى منك ولا تنظر إلى من هو أعلى منك فذلك أجدر ألا تزدري نعمة الله عليك.

لا بد أن تكون متفائلا فالتفاؤل يشرح الصدر ويفتح لك الآفاق ويجب أن تحسن الظن بالله تعالى ففي الحديث القدسي عن الله جَلَّ وَعَلا يَقُولُ: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إِنْ ظَنَّ خَيْرًا فَلَهُ، وَإِنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ)).

الانتحار محرم، ومن انتحر عذب في النار بنفس الطريقة التي انتحر بها، فإياك أن تفكر مرة ثانية بها لأن ذلك من وساوس الشيطان، يريد أن يفسد عليك حياتك.

أوصيك أن تقترب من ربك أكثر، وتؤدي ما افترض عليك، وأهم ذلك الصلاة، وتكثر من تلاوة القرآن الكريم، ولو بإطالة النظر، وأكثر من استماعه، وأكثر من التضرع بالدعاء بين يدي الله تعالى وأنت ساجد، وسل ربك أن يشفيك من هذه العلة، وتحين أوقات الاستجابة وأكثر من دعاء ذي النون {لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَاْنَكَ إِنِّيْ كُنْتُ مِنَ الْظَّاْلِمِيْنَ} فما دعا به أحد في شيء إلا استجاب الله له يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دَعْوَةُ ذِي النُّونِ إِذْ دَعَا وَهُوَ فِي بَطْنِ الحُوتِ: لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ، فَإِنَّهُ لَمْ يَدْعُ بِهَا رَجُلٌ مُسْلِمٌ فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ)).

الابتلاء لا يلزم أن يكون بسبب معاصي يفعلها، بل قد يكون المبتلى من أكثر الناس عبادة؛ لأن ذلك من علامات محبة الله له وانظر إلى حياة الأنبياء كيف أن الله ابتلاهم.

ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أشد الناس ابتلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فمن كان في دينه متانة كان بلاؤه أشد)) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

لا تفكر في الزنا لأن ذلك محرم ولكن كن متفائلا من أنك ستتزوج بإذن الله تعالى.

الزم الاستغفار، وأكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فذلك من أسباب تفريج الهموم وتنفيس الكروب، ففي الحديث: ((مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ))، وقال لمن قال له أجعل لك صلاتي كلها: ((إِذًا تُكْفَى هَمَّكَ وَيُغْفَرُ لَكَ ذَنْبُكَ)).

نسعد بتواصلك ونسأل الله لك التوفيق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً