الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

كيف نصبر على وفاة أبي وما أصابنا من الهموم؟

السؤال

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

لقد توفي والدي منذ فترة، وكانت صدمة لي لأني لم أكن أعلم بأن مرضه شديد جدا، بكيت بعد موته، ولكني بعد دفنه كنت راضية لفترة طويلة، فهل لي أجر الرضا؟ رضيت لفترة، ولكن بعد مدة بدأت أقول: لماذا أنا والناس سعيدة جدا، وهناك بشر لا يستحقون الحياة، أعلم أنه من الشيطان لكن لا أدري كيف أقنع نفسي؟ وهل سيبرد الله قلبي وقلب أسرتي على موت أبي؟ أخي ما زال في 12 من عمره، وأمي في 40 من العمر، وإخوتي يحملون هم الدنيا وما فيها من مستندات ومال، وأبي مات ولم يكن كبيرا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ تسنيم حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

أهلاً وسهلاً بك -أختي العزيزة-، وأدعو الله الكريم أن يُثلج قلبك بالرضا بقضاء الله خيره وشره، ونسأل الله تعالى لوالدك الرحمة والغفران، وأن يسكنهُ فسيح جنانه ويرزقكم الصبرَ على فراقه.

• إنّ فقدان والدك يندرج ضمن الحدث غير الاعتيادي والمفاجئ، ويندرج نفسياً تحت ما يسمى بالأحداث الحياتية الصادمة التي تتسم بالفجائية والعجز، حيث تهز هذه النوعية من الأحداث الأمن النفسي للإنسان وتؤثر على الناس بطرق مختلفة، فبعض الأشخاص يستطيعون تجاوز هذه المرحلة الصعبة خلال فترة قصيرة، وبعضهم قد تطول لديهم هذه الفترة وقد لا يتمكنون من تجاوزها بسهولة، أي تتفاوت درجة الصدمة من قليلة إلى شديدة، وتختلف سرعة الإنسان في تجاوزه لها بناء على عدة عوامل وهي: معنى ومكانة الإنسان المفقود بالنسبة للشخص، هل الصدمة مفاجئة أم تدريجية وتم التمهيد لها؟ كيف هي البنية والقوة والصلابة النفسية للشخص؟(ما لمستُه من كلماتك أن لديك صلابة نفسية جيدة، وهذا مؤشر أنك ستتجاوزين هذه المرحلة الصعبة من حياتك بأقل الأضرار النفسية)، خبرات الشخص الحياتية؟ المرحلة العمرية للشخص، حاجة الشخص للإنسان المفقود، وجود دائرة الدعم من حوله.

لذا ستدركين مع الوقت أن ردة فعلك أنتِ وكلّ من أخوتك ووالدتك مختلفة عن بعض، وذلك للعوامل المذكورة.

• إن المراحل التي يمرُّ بها الإنسان أثناء تعرضه للصدمة النفسية كفقدان عزيز عليه وكيفية مواجهته لها هي خمسة مراحل، بدءاً من تلقي الخبر إلى تمكنه من تجاوز هذه المرحلة بسلام، وهي:

- المرحلة الأولى: تبلّد المشاعر وحالة من الجمود والمفاجأة عند تلقي الخبر، فلا يعطي الإنسان أي ردّة فعل في اللحظات الأولى، وقد تطول هذه المرحلة لدقائق أو لساعات.

- المرحلة الثانية: وهي مرحلة إنكار الحدث، حيث يقوم الإنسان كوسيلة دفاع نفسية داخلية بالإنكار وعدم الاعتراف مع نفسه بخسارة ذلك الشخص العزيز.

- المرحلة الثالثة: وهي الاحتجاج والرفض والتذمر (وهي ما تمرين به الآن)، وكأنّ الإنسان يرفض مع ذاته وفاة قريبه، وهي حالة نفسية عابرة ومؤقتة، وليس لها علاقة بضعف الإيمان بقضاء الله –كما تُفسّر غالباً اجتماعياً-.

- المرحلة الرابعة وهي الكآبة والحزن وضيق الصدر، ويُعبّر عنها كل شخص بطريقته، فمنهم بالانطواء على النفس، ومنهم بالبكاء الشديد، وهذه المرحلة بالرغم من أنها مؤلمة جداً إلا أنها مهمة جداً للتعافي.

- المرحلة الخامسة وهي القبول، أي قبول الحدث الصادم والبدء بالتخطيط للعودة إلى الحياة الطبيعية ومسؤولياتها، مع الحفاظ الكامل على الوفاء لذكرى الشخص المُتوفّى.

الفكرة الهامة التي يجب قولها هنا: من الصحة النفسية أن تنتقلي من مرحلة إلى المرحلة اللاحقة وصولاً إلى مرحلة القبول، وحتى تتمكني من ذلك عليكِ ألا تتجاوزي أية مرحلة دون أن تعطيها حقها من التفهم والتقبل، وأيضاً من المهم ألّا تظلي مُطولاً عند مرحلة معينة دون تجاوزها والانتقال للمرحلة التالية.

معرفتك لهذه المراحل والنقاط الهامة سيجعلك أكثر تفهماً واستبصاراً بذاتك وكيف تتفاعلين مع وفاة والدكِ، وبالتالي أكثر وعياً لتجاوز الأمر بسلام.

• خلاصة ما أريد قوله: أنت تمرين الآن بالمرحلة الثالثة من مراحل تجاوز الصدمة وهي الرفض والتذمر، ولقد أخبرتنا أنك انتقلت للمرحلة الرابعة وهي الحزن والبكاء ومن ثم المرحلة الخامسة وهي القبول والرضا، ولكن من بعدها عُدْتِ الى مرحلة الرفض والتذمر، التي لم تعيشيها بعد، وأرى أن هذا الأمر طبيعي من المنحى النفسي، ما أطلبه منك أمران:

- لا تضغطي على نفسك بإحساس اللوم والذنب، اعتقاداً منك بأن ذلك من الشيطان ولا يتوافق مع الإيمان، فكما أخبرتك سابقاً أن هذه المراحل هي ضرورية جدا على المنحى النفسي لتجاوز الإنسان آثار الصدمة التي تعرض لها.

- أن تساعدي نفسك في الإنتقال إلى المرحلة التالية، إلى أن تصلي لمرحلة القبول.

• لذا نصيحتي لك أن تتقبّلي كل ما تشعرين به واتركي نفسكِ تعيش فترة الرفض والتذمر على راحتها؛ لأنها بلا شك ستخرج من هذه المرحلة أقوى إلى مرحلة الحزن ومن ثم إلى مرحلة القبول.

• بعض الاقتراحات والنصائح لتجاوز هذه المرحلة الصعبة من حياتكِ بسلام:
- فكّري بالأثر الإيجابي الكبير الذي تركه لكم والدكم، وكم من البذور الجميلة التي زرعها بداخلكم ومن المؤكد أنها ستثمر على مدار السنوات، وهذه الثمرات من أعمال صالحة وأولاد صالحين هم أجمل أثر وأكبر عدّاد للحسنات سيبقى مفتوحاً له دون أي توقف.

- اطلبي الدعم الذي تحتاجينه من المُقرّبين لكِ من العائلة والأصدقاء، فكما أخبرتكِ سابقاً أنّ وجود دائرة الدعم حول الشخص تُعينه كثيراً على تجاوز مراحل الصدمة بسرعة أكبر وبسلام، ومن المفيد جداً تحدثكِ مع المقربين عن المشاعر التي تنتابكِ، لذا لا تعيشي مشاعر الحزن بداخلك لوحدك.

- اقضي وقتاً أكبر مع عائلتكِ هذه الفترة، فوجعكم واحد ولا يوجد أفضل من تعاضد أفراد الأسرة مع بعضها في المواقف الصعبة، وتفريغكم للمشاعر سوف يسرع من عملية الاستشفاء الذاتي، وخاصة عندما يجمع بين أفراد الأسرة المحبة والتفاهم، وهذا ما لمستُه عن نمط العلاقة التي تمتاز بها أسرتكِ من خلال كلماتكِ.

- خذي وقتك للتفريغ عن كل ما تشعرين به في هذه المرحلة من التذمر والرفض، وخذي وقتك لتفهم كل ما تشعرين به، وتقبلي مشاعرك أياً كانت بعيداً عن لوم وجلد ذاتك وإطلاق الأحكام على نفسك، فهذه الخطوات هي من أهم الخطوات للتعافي والشفاء من الألم والحزن الناتج عن الصدمة.

- أخيراً: ولله الحمد أنّ ديننا الحنيف قد علّمنا كيفية مواجهة هذه المواقف الصعبة، وذلك من خلال التسليم لله بقولنا بعد بسم الله الرحمن الرحيم (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156 من سورة البقرة)، فمن قالها وصبر على حزنه ومصيبته، أخذ -بإذن الله- ثواب الصابرين الذي وعدهم الله تعالى به بقوله: (واصبروا إنّ الله مع الصابرين)، وقوله أيضاً: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)، وينبغي على العبد إذا علم وأيقنَ أنّ الله تعالى هو الحكيم العليم، أنّ يبقى دائماً مُطمئناً ومًحتسباً في كل ما يُصيبه.

ختاماً: أسأل الله تعالى أن يُزودكِ بقوة الإيمان، وأن يجعلكِ من الصابرين المحتسبين، وأن يجزيك عن ذلك خير الجزاء، أنتِ وعائلتك جميعاً، وأتمنى أن لا تترددي في مُراسلتنا مُجدّداً في حال وجود أية استفسارات أخرى وللاطمئنان عنك، دمتِ برعاية الله.

والله الموفق.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً