الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

أعاني من قسوة أمي منذ الصغر، فكيف أتعامل معها؟

السؤال

السلام عليكم.

أنا فتاة عمري 18 سنة، متدينة، مشكلتي هي أمي، أنا كنت قريبة من أبي، وقد توفي -رحمه الله-، ودخلت في مشاكل كثيرة مع أمي.

منذ صغري وأنا أحاول إرضاءها، لكن لا جدوى من ذلك، أيامي الجميلة معها قليلة مقارنة مع أيامي السيئة، وأنا صغيرة كانت تعذبني شر التعذيب، وترضي الآخرين مثل بنات عمي، وتضربني أمامهن، كانت لدي حالة نفسية سيئة وأنا صغيرة من تنمر خارج المنزل وداخل المنزل أتلقاه من أمي وبنات عمي.

الآن أنا كبيرة، وأتفهم كل الأمور، أوصيها بعدم وضع الأغاني في حساب أبي، وأن تضع الأدعية لكي يؤجر عليها من قرأها ويطلب لأبي الرحمة، لكنها تنعتني بالمعقدة نفسيا عندما أتكلم في الدين، وتدعو علي بعدم الزواج والنجاح في الدراسة!

ليس لدي أحد الآن بعد موت أبي، وقد وصى أمي بعدم معاملتي بسوء، لأنه كان يعلم بمعاملتها لي، أدعو الله أن يهديها ويفرج عني، فلا يمكنني التحمل.

لدي مسؤوليات كبيرة من تربية إخوتي الصغار معها، والدراسة والعمل في بيت، أرجو الحل، ماذا أفعل؟ هل أتجاهل كلامها القاسي؟ أرجو الرد.

وجزاكم الله خيرا.

الإجابــة

بسم الله الرحمن الرحيم
الابنة الفاضلة/ نور الهدى حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

ابنتي الحبيبة أهلاً ومرحباً بك.

إنني أشعر بك، وأتفهم كم أنت تتوقين أن تكوني داخل بيت أسرتك تعيشين حياة فيها مودة وانسجام وتلاحم أسري ومشاعر دافئة، لكن ما لا تعرفينه ربما أنَّ هذه المشاكل بين الأم والأبناء موجودة في كل منزل، ولكن تتفاوت الخلافات بينهم في حدتها وقوتها وطبيعتها من أسرة لأخرى.

ابنتي الفاضلة: عليك أن تعذري أمك؛ فربما هي تتعرض لضغوط معينة وتعاني من حالة نفسية بعد وفاة والدك تجعلها تفعل ما تفعل وتقول ما تقول، وربما إحساسها بالفراغ العاطفي جعل تصرفاتها وانفعالاتها غير متزنة، وسوء معاملتها لك ما هو إلا تفريغ لشحنات من الحزن، وليست كما تعتقدين تعبيرًا عن كره، فهي تُعاني ولا تستطيع التحكُّم في نفسها ولا ترى عيوبها؛ لذلك لا تجعلي وساوس الشيطان تحرمك من عطف ورضا أمك وتبعدك عنها، ولا تستسلمي لفكرة أنها تكرهك؛ فهي أكثر البشر خوفًا عليك وحبًا لك، صحيح أننا لا نجد العلاقة بين الأم وابنتها دائماً على ما يرام، وكثيرًا ما نجد المنغصات والخلافات التي لا تخلو منها البيوت، وبالمقابل علينا أن نتذكر أن الحياة قصيرة، وأصحابها راحلون.

وبالنسبة إلى شعورك بأن أمك لا تحبك منذ طفولتك، ولم تكن تعتني بك كما يجب، ولم تلبي احتياجاتك الصحية والنفسية أقول لك:

الابتلاء بهذه المعاملة من قبل والدتك ليس هينًا، لكن الأجر عظيم، والأم في العادة لا تكره أولادها؛ هذا مما زرعه الرحمن في قلبها، والله عز وجل أوصى الأبناء وحثهم على البر وليس العكس؛ وهذا لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه وتعالى، لكنها ربما من الأمهات اللواتي لا يعبرن بشكل سليم عما يختلج صدورهن، أو عاشت في بيئة ترى هذا الأمر طبيعياً، وهذا منتشر في الكثير من البيوت، وهذا أمر غير مقبول.

فعليك في هذه الحالة أن تصبري وتحتسبي الثواب من الله على هذا القدر الذي ابتلاك الله به، وتقابلي الإساءة بالإحسان، فكم هو مؤلم أن يكون كرب المرء مع من هم الأقرب إلى نفسه والأعز على قلبه، والأكثر إيلامًا أن يكون هذا الابتلاء والكرب مرتبط بمن ارتبط رضاهم برضى المولى تبارك وتعالى، فلا يخفى على أحد ما للوالدين من حق، ولك في خليل الله إبراهيم -عليه السلام- خيرُ أُسوة؛ فقد كان والدُه كافرًا، ويتوعَّده أشد الوعيد؛ فما كان جوابُه على تلك القسوة إلا أن قال: {سلام عليك سأستغفر لك ربي إنه كان بي حفيًا}، فتجنبي مواجهتها بقول أو فعل يُشعل فتيل غضبها.

ومهما كانت شخصيتها، فالشرع أَمرنا أن نلتمس العذر لمن حولنا، فما بالك بأقرب الأقارب وهي والدتك؟! ولا أظنّ أنّ هناك صعوبة في معرفة الأشياء التي تجلب غضب الوالدة، فأرجو أن تبتعدي عن كل ما يُثيرها ويغضبها، ونحن بلا شك لا نؤيد الوالدة في أسلوبها، ولكننا نلتمس لها الأعذار، والصبرُ على أذى الوالدة من أعظم البرّ.

فالأم لها ثلاثة حقوق؛ لأنها عانت من آلام الحمل، وآلام الوضع، وآلام الحضانة والرَّضاعة ما لم يُعانه الأب، وإنَّ فضْل الأُم مقدم على فضل الأب في القرآن الكريم والسُّنة النبوية، وانظري ماذا كان جواب نبي الأمة حين سُئل: "أي الناس أحسن بحسن صحابتي؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أبوك، ثم أدناك أدناك".

وإذا أردت معرفة السبيل لقلب أمك؟ وما هو دورك في تفعيل مشاعر الأخوة وتبادل التقدير والاحترام؟ أقول لك: إن كل ما عليك هو أن تتبعي هذه الخطوات، واجعلي قلبك يفيض حبًا وحنانًا واحترامًا للأم التي ارتبط رضاها برضى الرحمن:-

- اجلسي مع والدتك جلسة مصارحة، وابدئي بالكلمة الطيبة وبالعبارات التي ترضيها عنك، وأخبريها أنك بحاجة إلى وجودها، واطلبي منها أن تسامحك على ما صدر منك.

- اجعلي البر معها هدفك، واصبري على الخلاف مهما كان ومهما فعلت بك، وحاولي أن تجدي المبررات لها.

- قومي بتقبيل يدها ورأسها كل يوم، وساعديها في شؤون المنزل، واحرصي أن تكوني بين يديها حين تكون في حاجتك.

- اصبري وصابري عليها مهما فعلت أي شيء لم يعجبك، وتجنبي كل ما يسيء لأمك من رفع الصوت أو الجدال.

- اجتهدي أن تكوني متعاطفة مع إخوانك، وحثيهم على التواد والتراحم والتواصل بينهم، وتأكدي أن إسعادهم ينعكس عليك إيجابيًا.

- لا تنسي الابتسامة، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ((تبسمك في وجه أخيك صدقة))؛ فهي تبث العاطفة والسعادة، واعلمي أنَّ كل ما تفعلينه سوف تثابين عليه عند الله عز وجل.

- ركزي على دراستك وعلى التحصيل العلمي، واقرئي الكتب التي أجّلت قرأتها.

- اكتبي أهدافك، واستخدمي فنّ الخريطة الذهنية.

- حافظي على جسدك لتؤدي ما يريده الله منك؛ فممارسة الرياضة تعمل على تجديد طاقة الجسم والتخلص من القلق وطرد الأفكار السلبية.

- تقربي من الله والتزمي بأداء الصلوات الخمس، وأكثري من الدعاء لك ولإخوتك ولوالديك دومًا بصلاح الحال، فقد قال المولى: "ألا بذكر الله تطمئن القلوب".

- أشغلي وقتك بما يفيدك من خلال المشاركة في الأعمال التطوعية، ومنها تتعرفين على صحبة صالحة تعينك على الخير وحب الحياة في حب لله.

الشرع يقول : الواجب عليك مخاطبة أمّك بالأدب، ولو فرض أنّها فعلت، أو قالت منكراً، فإنّ عليك نهيها عن المنكر برفق وأدب، من غير إغلاظ أو إساءة، فإن غضبت فلا تكثري عليها ودعيها، فإنّ أمر الوالدين بالمعروف ونهيهما عن المنكر ليس كغيرهما.

أخيرًا: أقول لك: إنّ وجود الأهل نعمة من الله لا يعرف قيمتهم إلا من حُرم منهم، أسأل الله لكم التوافق والألفة والمحبة بينك وبين أسرتك الكريمة.

مشاركة المحتوى

مواد ذات صلة

الاستشارات

الصوتيات

تعليقات الزوار

أضف تعليقك

لا توجد تعليقات حتى الآن

بحث عن استشارة

يمكنك البحث عن الاستشارة من خلال العديد من الاقتراحات



 
 
 

الأعلى تقيماً