علاقتي سيئة بوالدتي..كيف أتجاوز حظ نفسي وأبرها؟
2025-12-24 01:20:30 | إسلام ويب
السؤال:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مشكلتي أن علاقتي بأمي سيئة جدًا، وأعتقد أنها لا تملك مشاعر تجاهي، فهي تحب أختي الكبرى والصغرى أكثر مني، وتجلس معهما وتلين في القول لهما، بينما تعاملني بجفاء، مع أنني أكثر من يساعدها في أعمال البيت، أحيانًا من تلقاء نفسي وأحيانًا حين تطلب، ولا أحتج بالانشغال مثل أخواتي.
أما بالنسبة لمشاعري، فللأسف أكره أمي جدًا؛ لأنها عصبية، وطريقة تعاملها سيئة، حتى أن كثيرًا من الناس يبتعدون عنها بسبب سوء التعامل وطريقة الحديث، أشعر أنني غير مرحب بي في البيت، فحزني وهمي يكونان من البيت.
مع العلم أن المشاكل ليست كثيرة، لكن الجفاء والتجاهل مستمران، وإذا حاولت استرضاء أمي واشتريت لها هدية واعتذرت، فرحت جدًا، ومن حينها تعاهدت مع نفسي ألا أكرر هذه الكبيرة التي تهلكني، حاولت التقرب منها وتجنب غضبها والجلوس معها حتى لا تبقى بمفردها، فإذا بها تقول: "أحمل منك من آخر مشكلة، ولن أنسى"، قلت لها: "ألم نحل المشكلة؟"، ومن بعدها شعرت أنه لا فائدة، سواء أحسنت أم أسأت، وللأسف حصل اختلاف.
أسألها لماذا تعاملني هكذا؟ فتقول: "أنتِ تذهبين لخالتك وتقفين ضدي" أمي لديها مشاكل مع جميع أخواتها، بسبب سوء تفاهم تصاعد بالعصبية، ومعظمهن يتجنبنها للأسف، وهي تقول لي: "لا تأكلي عند خالتك، لا تفعلي كذا"؛ لأنها قاطعت خالتي، أخواتي يتبعونها في رأيها، بينما أرى أنها متحاملة عليهم، وتظن أن معها كل الحق، مع أن أخواتها لديهن نسبة من الصحة والخطأ، وليس الأمر على طرف واحد.
إذن: ما ذنبي أن أقطع علاقات أشعر بقيمتها، والأقارب سند للإنسان، وخالتي تحبني جدًا؟ فلماذا تطلب مني أمي أن أتعامل معها بسطحية؟ هل هذا ابتلاء من الله؟
هذه عبادة عظيمة لكنها صعبة عليّ، أشعر أنني غريبة عندما أرى الناس الطبيعيين يعشقون أمهاتهم، بينما أنا لا أشعر بذلك، لا أريد أصلًا أن أحبها، لكن لا أدري ماذا أفعل، أحيانًا أهم بالدعاء على نفسي، لكن أتراجع وأخاف أن أموت وأنا مستحقة لدخول النار.
سألت أخواتي، فقالتا لي: إنهما فعلًا تشعران أنها تتعمد تصعيد المشاكل معي، ومعاملتها مع أختي الصغيرة خاصةً نادرًا ما تكون بغضب، ولا تكلفها أي مهام نظرًا لدراستها، وحتى قبل هذه السنة لم تكن تثقل عليها، أشعر بالظلم، وأخواتي أنفسهم لا أحبهم؛ أختي الكبرى ورثت من أمي العصبية، وتكون شاردة أغلب الوقت على الهاتف رغم مبادرتي، وأختي الصغيرة تفكيرها سطحي، وعندما أدعوهم لمجالس نتشارك فيها الكلام عن الدين -لأنني عن تجربة وجدت أن أكثر شيء يقوي علاقتنا هو الدين- لا يبالين.
الإجابــة:
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخت الفاضلة/ فاطمة حفظها الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
أهلاً بك في موقعك إسلام ويب، ونسأل الله العظيم أن يبارك فيك، وأن يرزقك بر والديك، وأن يكتب لك الأجر العظيم، ويسرنا عودتك مجددًا إلى موقعك، فأنت ومن خلال أسئلتك فتاة متدينة محبة للخير، لذا دعينا نقدم مقدمة نراها هامة جدًا:
الأخت الكريمة: لا يخفاك أن الأمّ هي أعظم باب فتحه الله للإنسان إلى الرحمة، وأقرب مخلوق جعله الله سببًا للحياة، فاقترن حقّها بالتوحيد، وتكرّر ذكرها في الوحي تأكيدًا لعظم منزلتها وشدّة حقّها، فقال الله تعالى: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾، وجعل الله ذكر الأمّ مقرونًا بالمشقّة والرحمة، فقال: ﴿حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَىٰ وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ﴾، فالأمّ لا تُفضَّل بكثرة العطاء فقط، بل بعمق التضحية، وصبرها الذي لا يرى، وبذلها الذي لا يُنتظر عليه جزاء.
وقد عظّم الإسلام حقّها تعظيمًا لم يعط لغيرها، فقال: «أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أُمُّكَ، ثُمَّ أَبُوكَ»، فقدّمها ثلاثًا، إشارةً إلى أن حقّها يتقدّم، وأن برّها أعظم، وأن التفريط في حقّها من أعظم الخسارات.
وبرّ الأم ليس خُلُقًا اجتماعيًّا فقط، بل عبادة عظيمة، جعل الله ثمرتها عاجلة وآجلة؛ ففي الدنيا يكون البرّ سببًا للبركة، وسعة الرزق، وطمأنينة القلب، وحُسن العاقبة، وفي الآخرة يكون سببًا لمغفرة الذنوب، ورفعة الدرجات، ودخول الجنّة من أوسع أبوابها، وقد روي أن النبي ﷺ قال: «رِضَا الرَّبِّ فِي رِضَا الْوَالِدِ، وَسَخَطُ الرَّبِّ فِي سَخَطِ الْوَالِدِ»، فطوبى لمن عرف قدر أمّه، وبرّها حيّةً وميتةً، وجعل الإحسان إليها طريقه إلى الله، فإنّها أقرب الخلق إلى رحمة الله، وأوسع أبواب الجنّة لمن أحسن الدخول منها.
هذه المقدمة لازمة، ولا بد أن تكون حاضرة في كل لحظة من لحظات حياتك، والآن دعينا نفترض أسئلة ونجيب عليها؛ لأنها مهمة لك.
أوّلًا: لماذا علّق برّ الأم بالتوحيد؟
لأنّ الله جعل برّ الوالدين عبادة تلي التوحيد مباشرة، وهذا الترتيب مقصود؛ فالتوحيد إخلاص العبوديّة لله، وبرّ الوالدين أعلى اختبار عمليّ لهذا الإخلاص، والإنسان قد يحسن إذا أُحسن إليه، لكنّه لا يُحسن مع الأذى إلا إذا كان يعمل لله وحده، ولهذا كان البرّ مع الأم حتى المؤذية أقرب إلى حقيقة العبوديّة من البرّ مع الأم الحنون.
ثانيًا: لماذا لم يُعلّق الله البرّ بعدل الأم؟
لم يقل الله: وبالوالدين إحسانًا (إن عدلوا)، ولا (إن أحسنوا)، ولا (إن لم يظلموا) بل أطلق الأمر إطلاقًا دون قيد، وقال تعالى: ﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَىٰ أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾، فالأم قد تظلم، وقد تقسُو، وقد تُخطئ في تقديرها، لكن هذا لا يكون عن قصد أبدًا، ولا حتى عن كره، هذا إن افترضناه ظلمًا، وإلا فإن بعض الأبناء حين يكبرون يفهمون أكثر وأكثر، وحين يكونون آباء يدركون أنهم ظلموا آباءهم وأمهاتهم كثيرًا، لكن مع ذلك حتى وإن كانت الأم ظالمة، فالبرّ في الشريعة لا يسقط؛ لأنّ الله لم يربطه باستحقاق الأم، بل بحقّه سبحانه على العبد.
ثالثًا: العلاقة بين الأبناء والآباء ليست مقايضة، بل امتحان إخلاص، المقايضة معناها: أعطيك بقدر ما تعطيني، أمّا البرّ فمعناه: أعطيك لأنّ الله أمرني، وبهذا يُفرّق بين من يُحسن طبعًا، ومن يُحسن تعبّدًا، قال النبي ﷺ: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ، وَلَكِنَّ الْوَاصِلَ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»، فالفضل ليس في المعاملة بالمثل، بل في الإحسان حين يغيب المقابل.
رابعًا: لماذا يُؤمر الإنسان بالبرّ مع وجود الظلم، والله لا يحب الظلم: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾؟ لأن ذلك اختبار علمي لصدق العبوديّة، فهو يُربّي النفس على التجرّد، ويُصفّي القلب من التعلّق بالخلق، وعليه فالبرّ هنا ليس تصديقًا للظلم، ولا رضا به، ولا إنكارًا للألم، بل هو اختيار الطاعة مع بقاء الألم.
خامسًا: لماذا لا يُلتفت إلى معاملة الأخوات؟ لأنّ الشرع لا يعترف بمنطق المقارنة، قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ وقال: ﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾، فعدل الأم مع غيرك حسابه عند الله، وبرّك أنت حسابه عند الله، ولا يلتقي الحسابان.
سادسًا: هل يُطلب من البنت أن تلغي نفسها؟
الإسلام لم يأمر بإلغاء المشاعر، ولا بقهر القلب، ولا بادّعاء المحبّة، بل أمر بكفّ الأذى، والقول الكريم، والفعل الحسن، قال تعالى: ﴿فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾، فالخطاب موجّه للفعل والقول، لا لإجبار القلب، وما تألّم في النفس لا يُؤاخذ به ما لم يتحوّل إلى معصية، قال النبي ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي عَمَّا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا، مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ».
وختامًا: الأم لها منزلة عظيمة، والبرّ واجب ولو أخطأت، ولا يُقاس برّك بسلوك غيرك، والعلاقة ليست مقايضة، فالبرّ طاعة لا محو ذات، وعبادة لا تبرير ظلم، وصبر محتسب لا رضا قهري، ومن فهم ذلك، أدّى البرّ وهو قائم بين يدي الله مرفوع الرأس، لا مكسور النفس أمام الناس.
ويوم أن تتعاملي مع والدتك من هذا المنطلق، وتبريها التماسًا لرضا الله لا انتظارًا لشكر أو ثناء؛ ساعتها سيستقيم الميزان، وستجدين تغيرًا في نفسك أولاً، وسينعكس حتمًا ولو بعد حين على تعامل والدتك معك.
نسأل الله أن يحفظك، وأن يرعاك، والله الموفق.