الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم رسم صور خيالية للجن والشياطين

السؤال

أعلم أنّ الجن والشياطين لا نراهم على شكلهم الحقيقي. ولكن مع ذلك يتجرأ بعض الناس لرسم صور خيالية لهم، كأن يرسموا لهم ذنبًا، وأسنانا حادة، وقرنين. فما حكم من يعلّق هذه الصور؟ وإذا قيل له هذا منكر يجيب: إن الحرام هو تعليق صور ذوات الأرواح. أما الجن والشياطين، فلا أروح لها.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:

فرؤية الإنسي للجني نفاها جمع من أهل العلم، منهم الشافعي، فقال في أحكام القرآن: من زعم من أهل العدالة أنه يرى الجن أبطلت شهادته؛ لأن الله -عزَّ وجلَّ- يقول: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إلا أن يكون نبيًا. اهـ.

وقال أبو القاسم بن عساكر في كتاب سبب الزهادة في الشهادة: وممن ترد شهادته ولا تسلم له عدالته من يزعم أنه يرى الجن عيانًا، ويدعي أن له منهم إخوانًا. اهـ.

ونقل ابن حجر في فتح الباري كلام الشافعي ثم قال: هذا محمول على من يدعي رؤيتهم على صورهم التي خلقوا عليها، وأما من ادعى أنه يرى شيئًا منهم بعد أن يتطور على صور شتى من الحيوان، فلا يقدح فيه، وقد تواردت الأخبار بتطورهم في الصور. اهـ.

واستحسن الخطيب الشربيني هذا التفريق بين رؤيتهم على ما خلقوا عليه، ورؤيتهم إذا تصوروا في صورة بني آدم ونحوهم.

ومما يدل لرؤيتهم بعد التشكل قوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ عِفْرِيتًا مِنْ الْجِنِّ تَفَلَّتَ عَلَيَّ الْبَارِحَةَ لِيَقْطَعَ عَلَيَّ الصَّلَاةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ، فَأَرَدْتُ أَنْ أَرْبِطَهُ إِلَى سَارِيَةٍ مِنْ سَوَارِي الْمَسْجِدِ حَتَّى تُصْبِحُوا وَتَنْظُرُوا إِلَيْهِ كُلُّكُمْ، فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ رَبِّ هَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي. رواه البخاري ومسلم.

قال البغوي: فيه دليل على أن رؤية الجن غير مستحيلة، فأما قوله تعالى وتقدس: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ فإنه حكم الأعم والأغلب من الآدميين امتحنهم بذلك ليفزعوا إليه عز وجل، ويستعيذوا به من شرهم. اهـ.

وقد سبق في مسألة رؤية الجن بعض الفتاوى، انظر منها الفتاوى التالية: 5241، 8349، 9591.

وكذلك سبقت فتاوى في أشكالهم وطعامهم ودوابهم، انظر الفتويين التاليتين: 9591، 47212. وفي كونهم مكلفين انظر الفتوى: 3621.

وسواء أخذنا بقول هؤلاء أو أولئك فإن مسألة تصويرهم لها الحكم نفسه لتصوير الآدمي، لأنه لم يرد دليل يخصهم من عموم تحريم ذوات الأرواح، فإنهم أحياء مكلفون من ذوات الروح مثلنا.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: وُجُودَ الْجِنِّ تَوَاتَرَتْ بِهِ أَخْبَارُ الْأَنْبِيَاءِ تَوَاتُرًا مَعْلُومًا بِالِاضْطِرَارِ، وَمَعْلُومٌ بِالِاضْطِرَارِ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ عُقَلَاءُ فَاعِلُونَ بِالْإِرَادَةِ، بَلْ مَأْمُورُونَ مَنْهِيُّونَ لَيْسُوا صِفَاتٍ وَأَعْرَاضًا قَائِمَةً بِالْإِنْسَانِ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا يَزْعُمُهُ بَعْضُ الْمَلَاحِدَةِ. اهـ.

وأكثر أهل العلم على تحريم رسم ذوات الروح -والجن منهم- فقد قال رجل لابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: يَا أَبَا عَبَّاسٍ إِنِّي إِنْسَانٌ إِنَّمَا مَعِيشَتِي مِنْ صَنْعَةِ يَدِي، وَإِنِّي أَصْنَعُ هَذِهِ التَّصَاوِيرَ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا أُحَدِّثُكَ إِلَّا مَا سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ؟ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فَإِنَّ اللَّهَ مُعَذِّبُهُ حَتَّى يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ فِيهَا أَبَدًا. فَرَبَا الرَّجُلُ رَبْوَةً شَدِيدَةً وَاصْفَرَّ وَجْهُهُ، فَقَالَ: وَيْحَكَ إِنْ أَبَيْتَ إِلَّا أَنْ تَصْنَعَ فَعَلَيْكَ بِهَذَا الشَّجَرِ كُلِّ شَيْءٍ لَيْسَ فِيهِ رُوحٌ. رواه البخاري.

وفي رواية: كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يَجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسًا فَتُعَذِّبُهُ فِي جَهَنَّمَ. وقَالَ: إِنْ كُنْتَ لَا بُدَّ فَاعِلًا فَاصْنَعْ الشَّجَرَ وَمَا لَا نَفْسَ لَهُ. رواه مسلم.

قال البغوي: أما صورة الأشجار والنبات، فلا بأس بها .. وقال ابن عبد البر: كان مجاهد يكره صورة الشجر. وهذا لا أعلم أحدا تابعه على ذلك..

فلا يجوز تصوير شيء فيه روح، ولا تعليق صورته، وقد علمت مما سبق أن لا فرق بين أن يكون المصور من ذوات الأرواح إنسا أو جنا أو حيوانا، وأن ما يفعله أولئك الذين وصفت من أمرهم ما وصفت هو الحرام.

وقد سبق تفصيل حكم التصوير في الفتاوى التالية: 581، 680، 1317، 48379، 10888.

وقد علمت مما سبق أنه لا فرق بين أن يكون المصَوَر من ذوات الأرواح إنسا أو جنا أو حيوانا، وأن ما يفعله أولئك الذين وصفت من أمرهم ما وصفت هو من الحرام.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني