الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقول السائل الكريم: غيرنا لم يخلق مسلما غير صحيح، فإن الله تعالى خلق البشر كلهم وفطرهم على التوحيد والإسلام له سبحانه، فما من مولود إلا ويولد على الفطرة، ثم بعد ذلك منهم من يبقى على فطرته، ومنهم من تحرفه شياطين الإنس والجن عن فطرته السوية. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: إني خلقت عبادي حنفاء كلهم وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطانا. رواه مسلم.
قال النووي: قَوْله تَعَالَى: وَإِنِّي خَلَقْت عِبَادِي حُنَفَاء كُلّهمْ أَيْ: مُسْلِمِينَ, وَقِيلَ: طَاهِرِينَ مِنْ الْمَعَاصِي, وَقِيلَ: مُسْتَقِيمِينَ مُنِيبِينَ لِقَبُولِ الْهِدَايَة ... فَاجْتَالَتْهُمْ أَيْ: اِسْتَخَفُّوهُمْ فَذَهَبُوا بِهِمْ وَأَزَالُوهُمْ عَمَّا كَانُوا عَلَيْهِ , وَجَالُوا مَعَهُمْ فِي الْبَاطِل. انتهى.
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه. متفق عليه.
وقد سبق التعرض لهذه المسألة في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 2067، 26645، 35304.
ثم إن الله تعالى برحمته وحكمته أرسل الرسل وأنزل الكتب قطعا للحجة، كما قال تعالى: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ {النساء:165}.
وهو سبحانه لا يؤاخذ أحدا ولا يعذبه إلا بعد قيام هذه الحجة عليه، كما قال تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً {الإسراء: 15}. وقال عز وجل: وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ {التوبة:115}.
قال ابن كثير: يقول تعالى مخبرا عن نفسه الكريمة وحكمه العادل إنه لا يضل قوما بعد بلاغ الرسالة إليهم، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة، كما قال تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى. انتهى.
ولذلك عُذر من عُذر ممن لم تبلغه الدعوة، أو بلغته وهو غير مهيأ للتكليف بها، كما جاء في الحديث: أربعة يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئا، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة، فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئا. وأما الأحمق فيقول: رب لقد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر. وأما الهرم فيقول: ربي لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئا. وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول. فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، قال: فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم بردا وسلاما. رواه أحمد، وصححه الألباني. وراجع في ذلك الفتويين: 3191، 29368.
ولذلك علق النبي صلى الله عليه وسلم مؤاخذة من لم يؤمن به بسماعه بدعوته صلى الله عليه وسلم وبلوغها إياه، كما قال صلى الله عليه وسلم: والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار. رواه مسلم.
قال النووي: فِي مَفْهُومِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ فَهُوَ مَعْذُورٌ. انتهى.
وأما من سمع برسالته صلى الله عليه وسلم ثم لم يؤمن وأبى إلا الشرك والكفر فلا عذر له.
والمقصود أن من أنعم الله عليه وولد بين أبوين مسلمين فهذا من فضل الله عليه، ولكن ليس معنى ذلك أن من ولد بين أبوين كافرين أنه معذور بعد بلوغ دعوة الإسلام إليه، وقيام الحجة عليه، وإلا فما من يوم يمر إلا ويعتنق الإسلام أناس لم يولدوا لأبوين مسلمين، وفي الوقت نفسه نسمع عن من ارتد ـ والعياذ بالله ـ من المسلمين ولحق بالكافرين، فالأمر كما قال الله تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ {الأنعام:125}.
ولمزيد الفائدة يمكن مراجعة الفتوى رقم: 8976.
والله أعلم.