الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فلبس البنطلون للرجال لا حرج فيه، وليس من التشبه بالكفار، فإن التشبه بهم، إنما يكون فيما هو من خصائصهم، قال العلامة العثيمين ـ رحمه الله ـ في بيان ضابط التشبه الممنوع: مقياس التشبه أن يفعل المتشبه ما يختص به المتشبه به، فالتشبه بالكفار أن يفعل المسلم شيئا من خصائصهم، أما ما انتشر بين المسلمين وصار لا يتميز به الكفار، فإنه لا يكون تشبها، ولا يكون حراما من أجل أنه تشبه، إلا أن يكون محرما من جهة أخرى، وهذا الذي قلناه هو مقتضى مدلول هذه الكلمة، وقد صرح بمثله صاحب الفتح ـ ابن حجر ـ حيث قال: وقد كره بعض السلف لبس البرنس، لأنه من لباس الرهبان، وقد سئل مالك عنه فقال: لا بأس به، قيل: فإنه من لبوس النصارى، قال: كان يلبس ههنا. اهـ.
قلت ـ ابن عثيمين ـ لو استدل مالك بقول النبي صلى الله عليه وسلم حين سئل ما يلبس المحرم؟ فقال: لا يلبس القميص ولا العمامة ولا السراويل ولا البرنس، الحديث، لكان أولى.
وفي الفتح ـ أيضا: وإن قلنا النهي عنها ـ أي المياثر الأرجوان ـ من الأجل التشبه بالأعاجم فهو لمصلحة دينية لكن كان ذلك شعارهم ـ حينئذ ـ وهم كفار، ثم لما لم يصر الآن يختص بشعارهم زال ذلك المعنى فتزول الكراهة.
انتهى. كلامه ـ رحمه الله.
وإذا تبين لك هذا وعلمت أن لبس البنطلون لا حرج فيه، وفي مثل حالكم إذا ترتب مصلحة على لبس البنطلون ـ كتأليف قلوب الكفار أو لدفع ضرر يخشى ـ فإنه يستحب لكم ذلك، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية استحباب عدم مخالفة الكفار من الهدي الظاهر للمسلم المقيم بين ظهرانهم ـ إذا كان ذلك لمصلحة شرعية أو لدفع ضرر متوقع.
وأما الصلاة في البنطلون الضيق: ومعلوم أنه ليس كل بنطلون ضيقاـ فهي دائرة بين الكراهة والإباحة، وقد نص على كراهة الصلاة في الثوب الضيق الذي يصف حجم الخلقة كثير من العلماء ـ منهم الشافعي ـ قال رحمه الله: وإن صلى في قميص يشف عنه لم تجزه الصلاة، فإن صلى في قميص واحد يصفه ولم يشف كرهت له ولا يتبين أن عليه إعادة الصلاة، والمرأة أشد حالا من الرجل. انتهى.
ومن العلماء من نص على الإباحة، قال ابن قدامة في المغني: وإن كان يستر لونها ويصف الخلقة جازت الصلاة، لأن هذا لا يمكن التحرز منه، وإن كان الساتر صفيقا. انتهى.
وفي الجملة، فالأولى الحرص على الصلاة في ثياب لا تصف حجم الخلقة كالقميص خروجا من خلاف من قال بالكراهة من العلماء، والإمام أولى بالحرص على ذلك، لأنه محل القدوة، والأمر في هذا واسع ـ ولله الحمد ـ ولا حرج من الصلاة في هذه الثياب الضيقة والصلاة خلف من يلبسها ـ كما رأيت في كلام العلماء ـ والصلاة صحيحة ـ على كل حال.
وأما كشف الرأس: فلا حرج فيه وليس مؤثرا على صحة الصلاة ـ بحال ـ وستر الرأس من أمور العادات التي تختلف باختلاف الأمكنة، كما نص على ذلك أهل العلم، وهذا كلام نفيس للعلامة الشاطبي ـ رحمه الله ـ في بيان هذا المعنى، قال في الموافقات:
منها: -أي العادات ـ ما يكون متبدلا في العادة من حسن إلى قبح وبالعكس مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحا في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح. انتهى.
وبه يتبين لك أن الأمر واسع ـ بحمد الله ـ وليس على من صلى حاسر الرأس جناح ـ إماما كان أو مأموما ـ ومن أراد ستر رأسه تحسينا للهيئة وطلبا لكمال الوقار وزيادة في أخذ الزينة عنده فقد أحسن.
وخلاصة الجواب أن هذه المسألة من المسائل السهلة التي فيها سعة، فمن لبس ثياب القوم ورأى أن المصلحة الدعوية هي في موافقتهم، فلا حرج عليه، بل قد يستحب ذلك ـ كما مرت االإشار إليه عند شيخ الإسلام ابن تيمية ـ ومن لبس القميص ونحوه ورأى أن في ذلك تمام الستر وكمال أخذ الزينة وأنه أبلغ في التشبه بالنبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، فلا حرج عليه، ومن خص الصلاة بلبس القميص ـ خروجا من خلاف من قال بالكراهة ـ فهو محسن، ومن صلى بالبنطلون، فلا حرج عليه، ومن ستر رأسه في الصلاة أو لم يستر رأسه فيها، فلا حرج عليه ـ ولله الحمد.
والله أعلم.