السؤال
أعلم أن في رمضان تصفيد الشياطين، وأنا أعاني من الوسواس أعزكم الله، فكيف يزيد الوسواس في رمضان، وأيضاً هناك سؤال خطر في بالي وأنا أصلي عند الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، فجأة فكرة تقول كيف تستعيذي من الشيطان وهو أصلاً مكبل ومصفد، ولم أتمسك بالفكرة أثناء الصلاة خوفاً على صلاتي ولكنها للأسف بعد انتهاء الصلاة تشتت فكري وابتدأت أشك ولكي أخرج نفسي من الشك قلت في نفسي (غير معقول أن لا يوجد شياطين في رمضان لا بد أن يكونوا موجودين)، وبعدها شعرت براحة ولكن أنا أصلاً لم أصدق نفسي لأني أعلم أن هذا حديث صحيح، وهو تصفيد الشياطين فأصبحت عند الاستعاذة في الصلاة أفكر في هذه الفكرة مراراً وتكراراً، بل أفقد الخشوع أحياناً خاصة عند التفل على يساري، فتأتي فكرة وأقول كيف تحرقين الشيطان وهو مكبل أساساً، لا حول ولا قوة إلا بالله، أنا تعبت، والله أرجو إجابة تشفيني مما أعانيه؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله تعالى أن يذهب عن الأخت السائلة الوساوس، ونوصيها بمدافعتها بالاستعاذة والإعراض عنها بالكلية، وعدم الاسترسال في الخواطر والشبه التي يوردها الشيطان، فشأن الشيطان أن يجعل من يوسوس إليه حائراً في فكره، شاكاً في عبادته، مشدداً في نفسه حتى يقع في المحظور، ويفقده الثقة في نفسه وفي الآخرين...
وأما عن التعوذ من الشيطان فإن الحفاظ عليه أمر مهم جداً، لأن أحب الأعمال إلى الله أدومها، ولأن رمضان شهر المزيد من الأعمال، فلا يسوغ ترك ما عمل به سابقاً بذريعة أننا في رمضان ولا حاجة بنا إلى التعوذ، ولأنه لم يؤثر عن الشارع تخصيص العمل بها بغير رمضان، بل جاءت الأوامر عامة فدخل فيها رمضان وغيره، وأما حديث تصفيد الشياطين في شهر رمضان، فقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب النار، وصفدت الشياطين. وفي رواية: سلسلت. وفي رواية عند الترمذي وابن خزيمة: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن.
والمراد بالتصفيد إما على الحقيقة ليمتنعوا من إيذاء المؤمنين، أو مسترقو السمع منهم بخاصة، وإما على المجاز، ويكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، لانكفاف الناس عن المخالفات، وقلة إغواء الشياطين فيصيرون كالمصفدين، ويكون تصفيدهم عن أشياء دون أشياء.. ولناس دون ناس، ذكر ذلك النووي عن القاضي عياض في شرحه لمسلم، وصديق حسن خان في عون الباري. ويؤيده ما رواه البخاري في صحيحه عن علي بن الحسين رضي الله عنهما قال: إن صفية زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة مر رجلان من الأنصار فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم على رسلكما، إنها صفية بنت حيي، فقالا: سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الشيطان يبلغ من ابن آدم مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً. انتهى.
وقال بعض أهل العلم: إن المصفد هم بعض الشياطين، وهم المردة ذكره القرطبي وابن حجر.
وقال الباجي في شرح الموطأ: قوله وصفدت الشياطين يحتمل أن يريد به أنها تصفد حقيقة، فتمتنع من بعض الأفعال التي لا تطيقها إلا مع الانطلاق، وليس في ذلك دليل على امتناع تصرفها جملة، لأن المصفد هو المغلول العنق إلى اليد يتصرف بالكلام والرأي وكثير من السعي، ويحتمل أن هذا الشهر لبركته وثواب الأعمال فيه وغفران الذنوب تكون الشياطين فيه كالمصفدة، لأن سعيها لا يؤثر، وإغواءها لا يضر... ويحتمل أن يريد صنفاً من الشياطين يمنعون التصرف جملة، والله أعلم وأحكم. انتهى.
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري قوله: وسلسلت الشياطين: قال الحليمي: يحتمل أن يكون المراد من الشياطين مسترقو السمع منهم، وأن تسلسلهم يقع في ليالي رمضان دون أيامه، لأنهم كانوا منعوا في زمن نزول القرآن من استراق السمع فزيدوا التسلسل مبالغة في الحفظ، ويحتمل أن يكون المراد أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره لاشتغالهم بالصيام الذي فيه قمع الشهوات وبقراءة القرآن والذكر، وقال غيره: المراد بالشياطين بعضهم، وهم المردة منهم، وترجم لذلك ابن خزيمة في صحيحه، وأورد ما أخرجه هو والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم من طريق الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة بلفظ: إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن. وأخرجه النسائي من طريق أبي قلابة عن أبي هريرة بلفظ: وتغل فيه مردة الشياطين. زاد أبو صالح في روايته: وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب، وفتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب، ونادى منادٍ: يا باغي الخير أقبل ويا باغي الشر أقصر، ولله عتقاء من النار، وذلك كل ليلة. لفظ ابن خزيمة وقوله (صفدت) بالمهملة المضمومة بعدها فاء ثقيلة مكسورة، أي شدت بالأصفاد، وهي الأغلال، وهو بمعنى سلسلت، ونحوه للبيهقي من حديث ابن مسعود وقال فيه: فتحت أبواب الجنة فلم يغلق منها باب الشهر كله. قال عياض: يحتمل أنه في ظاهره وحقيقته، وأن ذلك كله علامة للملائكة لدخول الشهر وتعظيم حرمته، ولمنع الشياطين من أذى المؤمنين، ويحتمل أن يكون إشارة إلى كثرة الثواب والعفو، وأن الشياطين يقل إغواؤهم فيصيرون كالمصفدين، قال ويؤيد هذا الاحتمال الثاني قوله في رواية يونس عن ابن شهاب عند مسلم: فتحت أبواب الرحمة، قال: ويحتمل أن يكون فتح أبواب الجنة عبارة عما يفتحه الله لعباده من الطاعات، وذلك أسباب لدخول الجنة وغلق أبواب النار عبارة عن صرف الهمم عن المعاصي الآيلة بأصحابها إلى النار، وتصفيد الشياطين عبارة عن تعجيزهم عن الإغواء وتزيين الشهوات، قال الزين بن المنير: والأول أوجه ولا ضرورة تدعو إلى صرف اللفظ عن ظاهره.
وقال القرطبي بعد أن رجح حمله على ظاهره: فإن قيل: كيف نرى الشرور والمعاصي واقعة في رمضان كثيراً، فلو صفدت الشياطين لم يقع ذلك: فالجواب: أنها إنما تُغَلُّ عن الصائمين الصوم الذي حوفظ على شروطه وروعيت آدابه، أو المصفد بعض الشياطين وهم المردة لا كلهم، كما تقدم في بعض الروايات، أو المقصود تقليل الشرور فيه، وهذا أمر محسوس، فإن وقوع ذلك فيه أقل من غيره، إذ لا يلزم من تصفيد جميعهم أن لا يقع شر ولا معصية، لأن لذلك أسباباً غير الشياطين كالنفوس الخبيثة والعادات القبيحة والشياطين الإنسية. انتهى.
والله أعلم.