الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فعقيدة أهل السنة والجماعة في باب صفات الرب جل وعلا واضحة كل الوضوح، وليس فيها بحمد الله لبس ولا غموض، ولا يرد عليها بحمد الله ما يرد من الإشكالات الواردة على غيرها، وذلك أن الواجب في صفات الرب جل وعلا هو إثبات ما أثبته الله لنفسه منها وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه عن نفسه ونفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تكييف ولا تمثيل ومن غير تحريف ولا تعطيل، بل نمر آيات الصفات وأحاديثها كما جاءت ونكل علم كيفيتها إلى الرب تبارك وتعالى، عالمين أنه تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ {الشورى:11} .
وإذا تقررت لك هذه القاعدة علمت ما في كلام الرجل الثاني هذا من الإيرادات الباطلة، فإن حديث النزول ثابت متفق على صحته بين أهل العلم، ولا مجال للطعن فيه، وقد خرجاه في الصحيحين وهو في غيرهما من دواوين الإسلام، وأما ما ذكره من اللوازم الباطلة التي لا يتسع المجال لتتبعها واحدا واحدا فيكفي جواب مجمل عنه، وهو أن منشأ هذه الإلزامات هو اعتقاد أن نزول الرب تعالى يشبه نزول المخلوقين، وليس الأمر كذلك فالله تعالى لا يشبهه شيء من خلقه ولا يشبه هو شيئا من خلقه، فنزوله ليس كنزول خلقه، بل هو نزول يليق به جل وعلا.
وهذا كلام نفيس للعلامة العثيمين رحمه الله نسوقه لك للفائدة ولتتبين ما هو الواجب تجاه هذه النصوص، قال رحمه الله: سؤالكم عن الحديث الصحيح الذي رواه الشيخان وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: « ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر يقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفر له» ، هذا لفظ البخاري في باب الدعاء والصلاة من آخر الليل. فتسألون كيف يمكن الجمع بين هذا الحديث، وبين الواقع إذ الليل عندنا مثلا نهار في أمريكا.
فجوابه: أنه لا إشكال في ذلك بحمد الله تعالى حتى يطلب الجمع، فإن هذا الحديث من صفات الله تعالى الفعلية، والواجب علينا نحو صفات الله تعالى سواء أكانت ذاتية كالوجه واليدين، أم معنوية كالحياة والعلم، أم فعلية كالاستواء على العرش والنزول إلى السماء الدنيا فالواجب علينا نحوها ما يلي: 1 - الإيمان بها على ما جاءت به النصوص من المعاني والحقائق اللائقة بالله تعالى.
2 - الكف عن محاولة تكييفها تصورا في الذهن، أو تعبيرا في النطق؛ لأن ذلك من القول على الله تعالى بلا علم. وقد حرمه الله تعالى في قوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ. {الأعراف: 33}
وفي قوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا {الإسراء:36} .
ولأن الله تعالى أعظم وأجل من أن يدرك المخلوق كنه صفاته وكيفيتها، ولأن الشيء لا يمكن إدراكه إلا بمشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو الخبر الصادق عنه، وكل ذلك منتف بالنسبة لكيفية صفات الله تعالى.
3 - الكف عن تمثيلها بصفات المخلوقين سواء كان ذلك تصورا في الذهن، أم تعبيرا في النطق لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ {الشورى:11}.
فإذا علمت هذا الواجب نحو صفاته تعالى، لم يبق إشكال في حديث النزول ولا غيره من صفات الله تعالى وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبر أمته أن الله تعالى ينزل إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر مخاطبا بذلك جميع أمته في مشارق الأرض ومغاربها، وخبره هذا من علم الغيب الذي أظهره الله تعالى عليه، والذي أظهره عليه وهو الله تعالى عالم بتغير الزمن على الأرض، وأن ثلث الليل عند قوم يكون نصف النهار عند آخرين مثلا.
وإذا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخاطب الأمة جميعا بهذا الحديث الذي خصص فيه نزول الله تبارك وتعالى، بثلث الليل الآخر فإنه يكون عاما لجميع الأمة، فمن كانوا في الثلث الآخر من الليل تحقق عندهم النزول الإلهي، وقلنا لهم: هذا وقت نزول الله تعالى بالنسبة إليكم، ومن لم يكونوا في هذا الوقت فليس ثم نزول الله تعالى بالنسبة إليهم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدد نزول الله تعالى إلى السماء الدنيا بوقت خاص، فمتى كان ذلك الوقت كان النزول، ومتى انتهى انتهى النزول، وليس في ذلك أي إشكال. وهذا وإن كان الذهن قد لا يتصوره بالنسبة إلى نزول المخلوق لكن نزول الله تعالى ليس كنزول خلقه حتى يقاس به، ويجعل ما كان مستحيلا بالنسبة إلى المخلوق مستحيلا بالنسبة إلى الخالق، فمثلا إذا طلع الفجر بالنسبة إلينا وابتدأ ثلث الليل بالنسبة إلى من كانوا غربا قلنا: إن وقت النزول الإلهي بالنسبة إلينا قد انتهى.
وبالنسبة إلى أولئك قد ابتدأ، وهذا في غاية الإمكان بالنسبة إلى صفات الله تعالى، فإن الله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ . اهـ
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في شرح حديث النزول: "فالنزول الإلهي لكل قوم مقدار ثلث ليلهم، فيختلف مقداره بمقادير الليل في الشمال والجنوب، كما اختلف في المشرق والمغرب، وأيضا فإنه إذا كان ثلث الليل عند قوم فبعده بلحظة ثلث الليل عند ما يقاربهم من البلاد، فيحصل النزول الإلهي الذي أخبر به الصادق المصدوق أيضا عند أولئك، إذا بقي ثلث ليلهم وهكذا إلى آخر العمارة. انتهى، وقل مثل هذا في صفة اليدين الثابتة لله تعالى كتابا وسنة.
وأما ما زعمه من أن الله تعالى في كل مكان فإن أراد أنه تعالى في كل مكان بعلمه وإحاطته بخلقه فهذا حق، وإن أراد أنه تعالى بذاته في كل مكان فليس هذا من عقائد أهل الإسلام، لا أهل الحديث ولا المتكلمين، وإنما يقول ذلك أهل الحلول والاتحاد، وحكم مقالتهم عند أهل العلم معلوم، وأهل السنة والجماعة يعتقدون أن الله تعالى فوق جميع خلقه مستو على عرشه بائن من خلقه فيثبتون له تعالى العلو على الوجه الذي يليق به، ولا يلزمهم شيء من هذه اللوازم الباطلة الواردة في كلام هذا القائل لأنها مبنية على اعتقاد أن إثبات الصفة يستلزم التشبيه.
وقد أفرد الذهبي لإثبات العلو كتابا كبيرا فيه مقنع لطالب الحق، وكلام أهل العلم في هذا الباب كثير جدا، ويكفي في خاتمة هذه الفتوى أن نورد تلك القاعدة التي تضبط مذهب أهل السنة في باب الصفات، قال شيخ الإسلام رحمه الله في أول الواسطية: وَمِنْ الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ: الْإِيمَانُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ وَبِمَا وَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ بَلْ يُؤْمِنُونَ بِأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} . فَلَا يَنْفُونَ عَنْهُ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَلَا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَلَا يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَاءِ اللَّهِ وَآيَاتِهِ وَلَا يُكَيِّفُونَ وَلَا يُمَثِّلُونَ صِفَاتِهِ بِصِفَاتِ خَلْقِهِ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَا سَمِيَّ لَهُ وَلَا كُفُوَ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا يُقَاسُ بِخَلْقِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ وَأَصْدَقُ قِيلًا وَأَحْسَنُ حَدِيثًا مِنْ خَلْقِهِ ثُمَّ رُسُلُهُ صَادِقُونَ مَصْدُوقُونَ؛ بِخِلَافِ الَّذِينَ يَقُولُونَ عَلَيْهِ مَا لَا يَعْلَمُونَ وَلِهَذَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصْفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَسَبَّحَ نَفْسَهُ عَمَّا وَصَفَهُ بِهِ الْمُخَالِفُونَ لِلرُّسُلِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمُرْسَلِينَ لِسَلَامَةِ مَا قَالُوهُ مِنْ النَّقْصِ وَالْعَيْبِ وَهُوَ سُبْحَانَهُ قَدْ جَمَعَ فِيمَا وَصَفَ وَسَمَّى بِهِ نَفْسَهُ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ فَلَا عُدُولَ لِأَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ عَمَّا جَاءَ بِهِ الْمُرْسَلُونَ؛ فَإِنَّهُ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ صِرَاطُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ. انتهى.
فعض على هذا الأصل بالنواجذ.
والله أعلم.