الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فتأويل الأصبع في هذا الحديث ونحوه بالقدرة أو بالنعمة من التأويل المبتدع لصفات الله تعالى، والذي لم ينقل لا عن الصحابة ولا عن التابعين ولا عن أئمة السلف الصالحين. بل المحفوظ عنهم الإمساك عن التأويل والتكييف، ففي (العلو للعلي الغفار) للذهبي أن أحمد بن نصر قال: سألت سفيان بن عيينة وأنا في منزله بعد العتمة، فجعلت ألح عليه في المسألة، فقال: دعني أتنفس. فقلت: كيف حديث عبد الله عن النبي أن الله يحمل السموات على إصبع والأرضين على إصبع. وحديث: إن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن. وحديث: إن الله يعجب أو يضحك ممن يذكره في الأسواق ؟ فقال سفيان: هي كما جاءت، نقر بها ونحدث بها بلا كيف اهـ.
وعن الدورقي قال سمعت وكيعا يقول: نسلم هذه الأحاديث كما جاءت ولا نقول كيف كذا ولا لم كذا. يعني مثل حديث: يحمل السموات على إصبع. وقلب ابن آدم بين إصبعين من أصابع الرحمن اهـ.
وعلى ذلك درج الأئمة في إثبات صفة الأصابع لله تعالى، مع تفويض علم كيفية ذلك إلى الله تعالى، دون التعرض لتأويلها، استنادا للأحاديث الصحيحة الواردة في هذا الباب؛ كحديث ابن عمرو المذكور في السؤال وهو عند مسلم في صحيحه، وحديث ابن مسعود المشهور المتفق عليه في خبر الحبر اليهودي، وتلاوة النبي صلى الله عليه وسلم في تأييده قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [الزمر: 67].
وقد ذكر أبو القاسم الأصبهاني في (الحجة في بيان المحجة) العشرات من أئمة أهل العلم من التابعين فمن بعدهم من كل طبقة، ثم قال: فاجتمع هؤلاء كلهم على إثبات هذا الفصل من السنة، وهجران أهل البدعة والضلالة، والإنكار على أصحاب الكلام والقياس والجدال، وأن السنة هي اتباع الأثر والحديث والسلامة والتسليم، والإيمان بصفات الله عز وجل من غير تشبيه ولا تمثيل ولا تعطيل ولا تأويل، فجميع ما ورد من الأحاديث في الصفات، مثل: أن الله عز وجل خلق آدم على صورته، ويد الله على رأس المؤذنين، وقلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن، وأن الله عز وجل يضع السموات على إصبع والأرضين على إصبع، وسائر أحاديث الصفات، فما صح من أحاديث الصفات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمع الأئمة على أن تفسيرها قراءتها، قالوا: أمروها كما جاءت .. اهـ.
وعلى ذلك بوب الأئمة، فقال إمام الأئمة أبو بكر بن خزيمة في كتاب التوحيد: (باب إثبات الأصابع لله عَزَّ وجَلَّ) وذكر بأسانيده ما يثبت ذلك.
وقال أبو بكر الآجري في (الشريعة): (باب الإيمان بأن قلوب الخلائق بين إصبعين من أصابع الرب عَزَّ وجَلَّ ، بلا كيف).
وقال ابن بطة في (الإبانة): (باب الإيمان بأن قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرب تعالى بلا كيف) وأسند فيه عدة أحاديث، وأسند عن بشر الحافي قوله: إن هؤلاء الجهمية يتعاظمون هذا. وأسند كذلك قول وكيع السابق.
وبوب لذلك أيضا ابن أبي عاصم في كتاب (السنة) وابن منده في كتاب (الرد على الجهمية) والدارقطني في (الصفات) والهروي في (الأربعين في دلائل التوحيد) وغيرهم.
وقال البغوي في (شرح السنة): الإصْبَع المذكورة في الحديث صفةٌ من صفات الله عَزَّ وجَلَّ، وكذلك كلُّ ما جاء به الكتاب أو السنَّة من هذا القبيل من صفات الله تعالى؛ كالنَّفس والوجه والعين واليد والرِّجل والإتيان والمجيء والنُّزُول إلى السماء الدنيا والاستواء على العرش والضحك والفرح. اهـ.
وقد أطال الدارمي في (نقضه على المريسي) النفَس في رد تأويل الأصابع بالقدرة، فأجاد وأفاد ورحمه الله. وكذلك فعل ابن قتيبة في (تأويل مختلف الحديث).
وأما المشايخ والعلماء الذي أولوا مثل هذه الصفات، فإنا وإن كنا نحفظ لهم مكانتهم، ونرجو أن يُغفر لهم بإرادتهم تنزيه الله تعالى بذلك، إلا أننا لا نقبل منهم تأويلهم لنصوص الصفات الثابتة في كتاب الله تعالى أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد سبق لنا بيان ذلك مع بيان جملة من الأصول والقواعد التي ينبغي مراعاتها في التعامل مع مثل هذه الأحاديث التي أشار إليها السائل، فراجع الفتوى رقم: 122213.
وأما الخطيب الذي استمع إليه السائل، فالذي نظنه أنه قرأ هذا التأويل في شرح الحديث، فإن كثيرا من شراح الحديث ممن تأثروا بمذهب الأشاعرة ذكروا ذلك، وقد قدمنا عذرهم، والله يغفر لهم !! والذي نراه أن يتقدم السائل لهذا الخطيب بالنصح الرفيق المؤدب، ويمكن أن يعطيه بعض كتب أئمة السنة المشار إليها سابقا، خاصة كتاب الدارمي أو ابن قتيبة. كما يمكنه أن يطلعه على هذه الفتوى. ولمزيد الفائدة يمكن الاطلاع على الفتويين: 146197، 64272.
والله أعلم.