الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن ما فهمته من كلام ابن عباس صحيح، وأما الراسبي والسعدي وغيرهم من الخوارج فليسوا من المهاجرين ولا الأنصار، وهم من أصول فرقة الخوارج التي ابتدعت في الدين، وخالفت أهل العلم من الصحابة وكفرتهم، وأنكروا كثيرا من الأحاديث، وصدق فيهم ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأحاديث في شأنهم كما قدمنا في الفتوى رقم : 130372. وراجع في شأنهم الفتاوى التالية أرقامها : 25436, 53224, 36993.
وقد ذكر ابن الأثير صحبة حرقوص السعدي وبلاءه الحسن في قتال الهرمزان وأنه صار من الخوارج، ومن أشدهم على علي رضي الله عنه، وكان معهم لما قاتلهم علي، وقتل سنة سبع وثلاثين، وقد نقل ابن حجر في الإصابة عن الهيثم بن عدي التشكيك في صحبته .
وأما الراسبي عبدالله بن وهب فقد قال ابن حجر في الإصابة أنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم : وقال في اللسان إنه أدرك الجاهلية، ولا تعلم له رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على عدم الجزم بصحبته ولقيه النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما ما في البخاري عن أبي سعيد أنه قال: قال رسول الله عليه وسلم: يخرج في هذه الأمة، ولم يقل يخرج منها. فظاهر كلام أبي سعيد أنهم ليسوا من الأمة، ولكنه وردت روايات أخرى فيها: يخرج قوم من أمتي، كما في مسلم من رواية علي وفيه من رواية أبي ذر: سيكون بعدي من أمتي ... وقد قال ابن عبد البر في التمهيد : قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخرج قوم من أمتي. إن صحت هذه اللفظة فقد جعلهم من أمته، وقد قال قوم معناه من أمتي بدعواهم .
ثم ذكر أحاديث في شأنهم ذكر فيها حديثا عن أبي سعيد وفيه : يخرج قوم من أمتي بعد فرقة من الناس ... اهـ
وقد ذكر ابن حجر في الفتح أن الرواية عن أبي سعيد بلفظ: من أمتي. ضعيفة .
ثم إن في قد تأتي أحيانا بمعنى من الابتدائية والتبعيضية، وبه فسر بعض المفسرين قوله تعالى : وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ {الروم:39}. وقوله تعالى : وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا {النساء:5}. كما قال ابن عاشور واستدل بقول الشاعر :
ونشرب في أثمانها ونقامر .
وذكره كذلك الألوسي في تفسيره وقال النووي في شرح صحيح مسلم عند شرحه لقول أبي سعيد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يخرج في هذه الأمة ولم يقل منها :
قال المازري هذا من أدل الدلائل على سعة علم الصحابة رضي الله عنهم ودقيق نظرهم وتحريرهم الألفاظ وفرقهم بين مدلولاتها الخفية، لأن لفظة من تقتضي كونهم من الأمة لا كفارا بخلاف في ومع هذا فقد جاء بعد هذا من رواية علي رضي الله عنه : يخرج من أمتي قوم وفي رواية أبي ذر إن بعدي من أمتي أو سيكون بعدي من أمتي وقد سبق الخلاف في تكفيرهم وأن الأصح عدم تكفيرهم . اهـ
وقد جمع ابن حجر في الفتح بين الروايات الثابتة بلفظ في أو من بأن المراد بالأمة في حديث أبي سعيد أمة الإجابة . وفي رواية غيره أمة الدعوة.
وقال ابن حجر في مبحث آخر في شأنهم والخلاف في تكفيرهم: وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فساق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد ... وقال الخطابي أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين، وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم وأنهم لا يكفرون ما داموا متمسكين بأصل الإسلام ... اهـ
والله أعلم.