الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

الحضارة الإسلامية تجمع بين ما يصلح المعاش وما ينفع العباد في المعاد

السؤال

يا أخي أنا أرى أن الإسلام لا يبني حضارة، و لدي أدلتي بل هو فقط يهدف لنجاة الناس من عذاب الآخرة.
قصة أصحاب الكهف، انظر ماذا فعلوا، قاموا بالفرار بسبب تدينهم، لأنهم أرادوا الدين كان عليهم أن ينعزلوا، لكن من بنى الحضارة كانوا غير المتدينين أو المتدينين الذين أخفوا تدينهم و تدينوا حسب ما سمح لهم الواقع بذلك. فمن الذي شيد المنازل و اكتشف العلوم في ذلك الوقت، بالطبع كانوا الناس غير المسلمين.
كذلك، اليوم المسلم يمضي وقتا طويلا في الصلاة و النوافل و العبادة، فكيف يمكن له أن ينجز؟
كما أنه لو أصبح أحدنا متدينا، و بما أن أغلب ما يحدث في المجتمع معاصي، فسيصبح منعزلا و سيفعل مثل ما فعل أصحاب الكهف، هل فهمتم قصدي؟

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فلا شك أن أعظم ما يقدم الإسلام للبشرية هو تعريفهم بالله تعالى وشريعته التي ارتضاها لعباده، والتي تتضمن إعمار الأرض بما ينفع الناس، وهذا أكبر ما يميز الحضارة الإسلامية: أنها لا تعرف الفصل النكد بين الدنيا والآخرة، بل هي تجمع للبشر بين ما يصلح معايشهم في كافة نواحي الحياة، وبين ما ينفعهم في معادهم بعد الممات.
وأما الدعوى التي ادعاها الأخ السائل فهي مما يستغرب، فقد اعترف الغربيون أنفسهم بأن حضارتهم لم تُبْن إلا على علوم المسلمين.

قال المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب): كلما أمعنا في دراسة حضارة العرب والمسلمين وكتبهم العلمية واختراعاتهم وفنونهم ظهرت لنا حقائق جديدة وآفاق واسعة، ولسرعان ما رأيتَهم أصحاب الفضل في معرفة القرون الوسطى لعلوم الأقدمين، وإن جامعات الغرب لم تعرف لها مدة خمسة قرون موردًا علميًّا سوى مؤلفاتهم، وإنهم هم الذين مدَّنُوا أوربا مادة وعقلاً وأخلاقًا، وإن التاريخ لم يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه في وقت قصير، وأنه لم يَفُقْهم قوم في الابتداع الفني .ولم يقتصر فضل العرب والمسلمين في ميدان الحضارة على أنفسهم؛ فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب، فهُما مدينان لهم في تمدُّنِهم، وإن هذا التأثير خاص بهم وحدهم؛ فهم الذين هذّبوا بتأثيرهم الخُلُقي البرابرة، وفتحوا لأوربا ما كانت تجهله من عالَم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا مُمدِّنين لنا وأئمة لنا ستة قرون، فقد ظلت ترجمات كتب العرب ولا سيِّما الكتب العلمية، مصدرًا وحيدًا للتدريس في جامعات أوربا خمسة أو ستة قرون، فعَلى العالم أن يعترف للعرب والمسلمين بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة. ولا يمكن إدراك أهمية شأن العرب إلا بتصور حال أوربا حينما أدخلوا الحضارة إليها، إذا رجعنا إلى القرن التاسع والقرن العاشر من الميلاد، حين كانت الحضارة الإسلامية في إسبانيا ساطعة جدًّا، رأينا أن مراكز الثقافة في الغرب كانت أبراجًا يسكنها سنيورات متوحشون يفخرون بأنهم لا يقرءون، وأن أكثر رجال النصرانية معرفة كانوا من الرهبان المساكين الجاهلين الذين يقضون أوقاتهم في أديارهم ليكشطوا كتب الأقدمين النفيسة بخشوع. اهـ.
وقد شهد بما شهد به جوستاف مئات من العلماء الغربيين والشرقيين، وإذا أراد الأخ السائل أن يقف على تفاصيل آثار الحضارة الإسلامية فيمكنه الرجوع لكتاب (الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم) للشيخ عبد الرحمن الميداني.
وقد سبق لنا ذكر مصادر أخرى في الفتوى رقم: 118176. ولمزيد الفائدة عن هذا الموضوع يمكن الاطلاع على الفتويين: 122383، 114576.
ثم ننبه على أن الإسلام لم يكتف بأمر أتباعه بالاستقامة والصلاح في خاصة أنفسهم، بل فرض عليهم أن يبذلوا ما يستطعون في إصلاح أحوال الأمم، بدعوتهم إلى الخير وبيان الحق، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، ومجاهدتهم في ذات الله، وبذلك تنجو هذه الأمة، ولولا ذلك لفسدت الأرض، كما قال تعالى: وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة : 251] وقال عز وجل: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف : 165] وقال سبحانه: فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) [هود]. وقال صلى الله عليه وسلم: مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقا ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعا وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعا. رواه البخاري. وقال صلى الله عليه وسلم:والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، ثم تدعونه فلا يستجاب لكم. رواه الترمذي، وقال: حديث حسن، وحسنه الألباني.

والنصوص في هذا المعنى كثيرة، والمقصود أن ننبه على أن المسلم بدينه وحضارته مطالب بقدر طاقته أن يقوم بالحق وأن يرحم الخلق، وذلك هو الإصلاح المناط بهذه الأمة، قال تعالى: وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ [الأعراف: 170].

قال السعدي: هذه الآية وما أشبهها دلت على أن الله بعث رسله عليهم الصلاة والسلام بالصلاح لا بالفساد، وبالمنافع لا بالمضار، وأنهم بعثوا بصلاح الدارين، فكل من كان أصلح كان أقرب إلى اتباعهم. اهـ.
والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني