الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فالواجب على المسلم أن يؤمن أن كل شيء في الكون واقع بقضاء من الله وقدره، فقد قال الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ {القمر59}.
وفي حديث مسلم: كل شيء بقدر حتى العجز والكيس.
وفي سنن أبي داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إن أول ما خلق القلم، فقال له اكتب، قال: وما أكتب يا رب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة.
فالحذر من القدر وكذا الدعاء والإيمان، ولكن القضاء نوعان: قضاء مبرم: وهو القدر الأزلي، وهو لا يتغير، كما قال تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ {قّ: 29}.
وقال صلى الله عليه وسلم لأم حبيبة: لقد سألت الله لآجال مضروبة وأيام معدودة وأرزاق مقسومة، لن يعجل الله شيئا قبل حله، أو يؤخر شيئاً عن حله. رواه مسلم.
قال الإمام النووي: إن الآجال والأرزاق مقدرة لا تتغير عما قدره الله وعلمه في الأزل، فيستحيل زيادتها ونقصها حقيقة عن ذلك. اهـ.
وهناك قضاء معلق: وهو الذي في الصحف التي في أيدي الملائكة، فإنه يقال: اكتبوا عمر فلان إن لم يتصدق فهو كذا وإن تصدق فهو كذا، وفي علم الله وقدره الأزلي أنه سيتصدق أو لا يتصدق، فهذا النوع من القدر ينفع فيه الدعاء والصدقة، لأنه معلق عليهما، وهو المراد بقوله تعالى: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاء وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ {الرعد 39ـ 38}
وهو معنى حديث الترمذي: لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في العمر إلا البر.
والحديث الآخر: الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل. رواه الترمذي، وحسنه الألباني.
وهذا هو الذي ينبغي أن يحمل عليه كلام السلف المذكور في السؤال، فقد سئل شيخ الإسلام سؤالا طويلا وفيه: هل شرع في الدعاء أن يقول: اللهم إن كنت كتبتني كذا فامحني واكتبني كذا، فإنك قلت: يمحو الله ما يشاء ويثبت؟ وهل صح أن عمر كان يدعو بمثل هذا؟ فكان مما أجاب به رحمه الله: والجواب المحقق أن الله يكتب للعبد أجلا في صحف الملائكة فإذا وصل رحمه زاد في ذلك المكتوب، وإن عمل ما يوجب النقص نقص من ذلك المكتوب... وهذا معنى ما روى عن عمر أنه قال: اللهم إن كنت كتبتني شقيا فامحني واكتبني سعيدا، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت ـ والله سبحانه عالم بما كان وما يكون، وما لم يكن لو كان كيف كان يكون، فهو يعلم ما كتبه له وما يزيده إياه بعد ذلك، والملائكة لا علم لهم إلا ما علمهم الله، والله يعلم الأشياء قبل كونها وبعد كونها، فلهذا قال العلماء: إن المحو والإثبات في صحف الملائكة، وأما علم الله سبحانه فلا يختلف ولا يبدو له ما لم يكن عالما به، فلا محو فيه ولا إثبات، وأما اللوح المحفوظ: فهل فيه محو وإثبات؟ على قولين، والله سبحانه وتعالى أعلم. هـ.
وقال ابن القيم في الجواب الكافي: المقدور قدر بأسباب، ومن أسبابه الدعاء، فلم يقدر مجرداً عن سببه، ولكن قدر بسببه فمتى أتى العبد بالسبب وقع المقدور، ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهكذا، كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر... وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب، فإذا قدر وقوع المدعو به لم يصح أن يقال: لا فائدة في الدعاء، كما لا يقال: لا فائدة في الأكل والشرب. اهـ.
وقال السندي في شرحه على سنن ابن ماجه: قال الغزالي: فإن قيل: ما فائدة الدعاء مع أن القضاء لا مرد له؟ فاعلم أن من جملة القضاء رد البلاء بالدعاء، فإن الدعاء سبب رد البلاء، ووجود الرحمة، كما أن البذر سبب لخروج النبات من الأرض وكما أن الترس يدفع السهم، كذلك الدعاء يرد البلاء. اهـ.
وقال العلامة السعدي: يمحوا الله ما يشاء ـ من الأقدار: ويثبت ـ ما يشاء منها، وهذا المحو والتغيير في غير ما سبق به علمه وكتبه قلمه، فإن هذا لا يقع فيه تبديل ولا تغيير، لأن ذلك محال على الله أن يقع في علمه نقص أو خلل، ولهذا قال: وعنده أم الكتاب ـ أي: اللوح المحفوظ الذي ترجع إليه سائر الأشياء، فهو أصلها وهي فروع له وشعب، فالتغيير والتبديل يقع في الفروع والشعب، كأعمال اليوم والليلة التي تكتبها الملائكة، ويجعل الله لثبوتها أسبابا ولمحوها أسبابا لا تتعدى تلك الأسباب ما رسم في اللوح المحفوظ، كما جعل الله البر والصلة والإحسان من أسباب طول العمر وسعة الرزق، وكما جعل المعاصي سببا لمحق بركة الرزق والعمر، وكما جعل أسباب النجاة من المهالك والمعاطب سببا للسلامة، وجعل التعرض لذلك سببا للعطب، فهو الذي يدبر الأمور بحسب قدرته وإرادته، وما يدبره منها لا يخالف ما قد علمه وكتبه في اللوح المحفوظ. هـ.
وفي فتح الباري للحافظ ابن حجر: المحو والإثبات بالنسبة لما في علم المَلَك، وما في أم الكتاب هو الذي في علم الله تعالى فلا محو فيه البتة، ويقال له: القضاء المبرم، ويقال للأول: القضاء المعلق. اهـ.
والله أعلم.