السؤال
حكم من يقول إن أبوي الرسول مؤمنان و يلعن من كفرهما . و شخص يقول إن سورة الأنعام التي جاء فيها اسم آزر تدل على أن الكافر هو عم النبي إبراهيم و ليس أباه ! و إن أبا سيدنا إبراهيم عليه السلام مسلم ! ما حكم هذا الشخص بما قاله من كفر لتكذيبه القرآن ؟ وما حكم من يقول إن هذا اجتهاد ؟ و أريد تفسير موضوع استغفار سيدنا ابراهيم لأبيه الكافر و استغفار سيدنا محمد للمنافقين و كيف يتسق هذا مع كفر من يستغفر للكافر لأنه اعتقد جواز الرحمة له ؟
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا وجه للحكم لأبوي النبي صلى الله عليه وسلم بالإيمان رغم موتهما على دين قومهما، وإنما الخلاف في تعذيبها في النار، أو العفو عنهما لكونهما من أهل الفترة، وقد سبق لنا بيان الراجح في ذلك، فراجع الفتويين: 63234، 33021. كما سبق لنا التنبيه على أن الخوض في مثل هذه المسألة والانشغال بها مما لا ينبغي، فراجع الفتوى رقم: 49293.
وقد خص السيوطي مسألة أبوي النبي صلى الله عليه وسلم بستة رسائل هي:
1- "مسالك الحنفا في والدي المصطفى".
2- "الدرج المنيفة في الآباء الشريفة".
3- "المقامة السندسية في النسبة المصطفوية".
4- "التعظيم والمنة في أن أبوي رسول الله في الجنة".
5- "نشر العلمين المنيفين في أحياء الأبوين الشريفين".
6- "السبل الجلية في الآباء العلية".
ومما قال في (مسالك الحنفا): الحكم في أبوي النبي صلى الله عليه وسلم أنهما ناجيان وليسا في النار، صرح بذلك جمع من العلماء، ولهم في تقرير ذلك مسالك ... اهـ.
وإنما ذكرنا هذا ليعلم السائل أن المسألة فيها مجال للتأويل والعذر والأخذ والرد، وعلى أية حال فقد ردَّ الملا علي القاري على رسائل السيوطي في رسالة مستقلة، وقال في (شرح الشفا): قد كتبت في هذه المسألة رسالة مستقلة ودفعت فيها ما ذكره السيوطي من الأدلة على خلاف ذلك في رسائله الثلاث، لكن لا يجوز أن يذكر مثل هذا في مقام المعيرة اهـ.
وقال في كتابه (أدلة معتقد أبي حنيفة): قد قال الإمام الأعظم والهمام الأقدم في كتابه المعتبر المعبر بالفقه الأكبر ما نصه: "ووالدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتا على الكفر". فقال شارحه: هذا رد على من قال بأن والدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ماتا على الإيمان. وعلى من قال ماتا على الكفر ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا الله لهما فأحياهما الله وأسلما ثم ماتا على الإيمان ... اهـ.
وأما آزر فقد اختلف أهل العلم في كونه اسما لوالد الخليل إبراهيم عليه السلام، ومع ذلك فلا وجه للخلاف في كفر والده بغض النظر عن اسمه، حيث صرحت بذلك نصوص أخرى، كقوله تعالى: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113)وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) [التوبة] وراجع في ذلك الفتوى رقم: 15511. وقوله تعالى: (إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ) يبين وجه استغفارالخليل لأبيه. وقد تعرض السيوطي في رسالته (مسالك الحنفا) لمسألة والد الخليل أيضا. بما يوضح موضع الشبهة والتأويل، ويبعد ما أطلقه السائل بقوله: (ما حكم هذا الشخص بما قاله من كفر لتكذيبه القرآن) !! فليس هذ القول تكذيبا للقرآن ولكنه خطأ في فهمه، وشتان ما بين التكذيب والخطأ !!
وأما مسألة استغفار النبي صلى الله عليه وسلم لرأس المنافقين فقد كان قبل النهي الصريح له عن ذلك، ففي الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: لما توفي عبد الله بن أبيٍّ جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إنما خيرني الله فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة) وسأزيده على السبعين. قال: إنه منافق؟ قال: فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: (ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره).
قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري): قوله "فقال: يا رسول الله أتصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه" كذا في هذه الرواية، إطلاق النهي عن الصلاة، وقد استشكل جدا حتى أقدم بعضهم فقال: هذا وهم من بعض رواته. وعاكسه غيره فزعم أن عمر اطلع على نهي خاص في ذلك. وقال القرطبي: لعل ذلك وقع في خاطر عمر فيكون من قبيل الإلهام، ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله (ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين) قلت: الثاني أقرب من الأول؛ لأنه لم يتقدم النهي عن الصلاة على المنافقين، بدليل أنه قال في آخر هذا الحديث: "قال فأنزل الله (ولا تصل على أحد منهم) والذي يظهر أن في رواية الباب تجوزا بينته الرواية التي في الباب بعده من وجه آخر عن عبد الله بن عمر بلفظ: فقال: "تصلي عليه وقد نهاك الله أن تستغفر لهم" ... أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله، وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره، واستصحابا لظاهر الحكم، ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته، ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في أول الأمر يصبر على أذى المشركين ويعفو ويصفح، ثم أمر بقتال المشركين فاستمر صفحه وعفوه عمن يظهر الإسلام ولو كان باطنه على خلاف ذلك؛ لمصلحة الاستئلاف وعدم التنفير عنه، ولذلك قال: "لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه" فلما حصل الفتح ودخل المشركون في الإسلام وقل أهل الكفر وذلوا أمر بمجاهرة المنافقين وحملهم على حكم مر الحق ولا سيما وقد كان ذلك قبل نزول النهي الصريح عن الصلاة على المنافقين وغير ذلك مما أمر فيه بمجاهرتهم، وبهذا التقرير يندفع الإشكال عما وقع في هذه القصة اهـ. وراجع الفتوى رقم: 18147.
وأخيرا نلفت نظر الأخ السائل إلى خطورة الكلام في التكفير ودقته، وضرر الوسوسة في هذه الأمور.
والله أعلم.