الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما حاصر بني قريظة أمر أصحابه أن يستروه بالجحف حتى يسمعهم كلامه ففعلوا فناداهم: يا إخوة القردة والخنازير.. كما أخرجه الحاكم في مستدركه وصححه ، ووافقه الذهبي.
وأما حديث عائشة: أتى النبي صلى الله عليه وسلم أناس من اليهود فقالوا: السام عليك يا أبا القاسم، قال: وعليكم، قالت عائشة: قلت: بل عليكم السام والذام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة, لا تكوني فاحشة, فقالت: ما سمعت ما قالوا؟! فقال: أوليس قد رددت عليهم الذي قالوا؟ قلت: وعليكم, وفي رواية: مه يا عائشة، فإن الله لا يحب الفحش والتفحش. فقد رواه البخاري ومسلم.
والتوفيق بين الحديثين أن الخطاب فيهما اختلف بحسب اختلاف الأحوال, فالكفار عند وقت جهادهم وقتالهم يشرع الإغلاظ عليهم والشدة؛ لقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ {التوبة:123}، ولقوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ {التوبة:73}.
وأما إن لم يكونوا مقاتلين بأن كانوا معاهدين فيشرع البر والإحسان إليهم، ويتعين السعي في هدايتهم ودعوتهم بالتي هي أحسن, وخطابهم بالقول اللين الحسن، عملًا بقوله تعالى: وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْنًا {البقرة:83}، وبقوله: فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى {طه:44}، وقوله: ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ {النحل:125}، وبقوله: وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ {العنكبوت:46}.
قال ابن فورك في تفسيره: استثنى الذين ظلموا منهم - وجميعهم ظالم - لأن المراد إلا الذين ظلموكم في جدالهم, أو غيره مما يقتضي الإغلاظ لهم، وبهذا يسع الإنسان أن يغلظ على غيره، وإلا فالداعي إلى الحق يجب أن يستعمل الرفق في أمره. اهـ.
ولذا ينبغي للمسلمين عمومًا أن يسعوا في هداية الخلق ودعوتهم، وينبغي لهم الأخذ بكل وسيلة تقرب هؤلاء إلى الإسلام وترغبهم فيه، من لين القول, ولطف العبارة, وحسن الأسلوب.
قال السعدي - رحمه الله - في تفسير قول الله تعالى: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ قال - رحمه الله -: ينهى تعالى عن مجادلة أهل الكتاب، إذا كانت من غير بصيرة من المجادل، أو بغير قاعدة مرضية، وأن لا يجادلوا إلا بالتي هي أحسن، بحسن خلق ولطف ولين كلام، ودعوة إلى الحق وتحسينه، ورد عن الباطل وتهجينه، بأقرب طريق موصل لذلك، وأن لا يكون القصد منها مجرد المجادلة والمغالبة وحب العلو، بل يكون القصد بيان الحق وهداية الخلق، إلا من ظلم من أهل الكتاب، بأن ظهر من قصده وحاله، أنه لا إرادة له في الحق، وإنما يجادل على وجه المشاغبة والمغالبة، فهذا لا فائدة في جداله، لأن المقصود منها ضائع. اهـ
ويحرم سب الكافر المعين إذا لم يكن حربيًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ألا من ظلم معاهدًا, أو انتقصه, أو كلفه فوق طاقته ,أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة. رواه أبو داود، وصححه الألباني.
قال الصنعاني في سبل السلام في شرحه لحديث: سباب المسلم فسوق وقتاله كفر. متفق عليه: وفي مفهوم قوله "المسلم" دليل على جواز سب الكافر, فإن كان معاهدًا فهو أذية له, وقد نهى عن أذيته فلا يعمل بالمفهوم في حقه, وإن كان حربيًا جاز سبه إذ لا حرمة له. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: سب المسلم للذمي معصية، ويعزر المسلم إن سب الكافر, قال الشافعية: سواء أكان حيًا، أو ميتًا يعلم موته على الكفر, وقال البهوتي ـ من الحنابلة: التعزير لحق الله تعالى. هـ.
وقد سبقت لنا فتاوى عديدة حول ضوابط التعامل مع الكفار، فراجع منها الفتاوى ذوات الأرقام التالية: 1367، 3681، 20632، 3308.
والله أعلم.