السؤال
فما صحة الحديث الذي يقول إن سيدتنا عائشة أرضعت غلاما، وهل يمكن أن تشرحوا هذا الحديث: فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال ـ فقد شرحتموه في إحدى الفتاوى ولم يكن شرحا وافيا فلم أفهمه جيدا، لأنه بمجرد قراءته قراءة سريعة يفهم منه أنها إن كانت تحب أحد الرجال أن يدخل عليها تأمر أختها وبنات أختها بأن يرضعن الرجال الذين كانت تحب أن يدخلوا عليهن، وهذا أمر يسيء لأمنا عائشة وكأنها تأمر بالفحشاء، أرجو منكم التوضيح ـ فرضاع الكبير مختص بسالم، وشكرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فننصح الأخ السائل بعدم تتبع الشبه وتلقفها، وألا يجعل قلبه وعاء للشبه، فالشبه مفسدة للقلب الذي تقر فيه، قال ابن القيم: والشبهة وارد يرد على القلب يحول بينه وبين انكشاف الحق له، فمتى باشر القلب حقيقة العلم لم تؤثر تلك الشبهة فيه، بل يقوى علمه ويقينه بردها ومعرفة بطلانها، ومتى لم يباشر حقيقة العلم بالحق قلبه قدحت فيه الشك بأول وهلة، فإن تداركها وإلا تتابعت على قلبه أمثالها حتى يصير شاكا مرتابا، والقلب يتوارده جيشان من الباطل، جيش شهوات الغي، وجيش شبهات الباطل، فأيما قلب صغا إليها وركن إليها تشربها وامتلأ بها فينضح لسانه وجوارحه بموجبها، فإن أشرب شبهات الباطل تفجرت على لسانه الشكوك والشبهات والإيرادات فيظن الجاهل أن ذلك لسعة علمه وإنما ذلك من عدم علمه ويقينه وقال لي شيخ الإسلام ـ رضي الله عنه ـ وقد جعلت أورد عليه إيرادا بعد إيراد لا تجعل قلبك للإيرادات والشبهات مثل السفنجة فيتشربها فلا ينضح إلا بها، ولكن اجعله كالزجاجة المصمتة تمر الشبهات بظاهرها ولا تستقر فيها فيراها بصفائه ويدفعها بصلابته، وإلا فإذا أشربت قلبك كل شبهة تمر عليه صار مقرا للشبهات ـ أو كما قال ـ فما أعلم أنني انتفعت بوصية في دفع الشبهات كانتفاعي بذلك، وإنما سميت الشبهة شبهة لاشتباه الحق بالباطل فيها، فإنها تلبس ثوب الحق على جسم الباطل وأكثر الناس أصحاب حسن ظاهر فينظر الناظر فيما ألبسته من اللباس فيعتقد صحتها، وأما صاحب العلم واليقين فإنه لا يغتر بذلك بل يجاوز نظره إلى باطنها وما تحت لباسها فينكشف له حقيقتها. اهـ.
وينبغي أن يعلم أن الأصل إحسان الظن بجميع المسلمين، فكيف بأمهات المؤمنين، خاصة عائشة ـ رضي الله عنها ـ التي برأها الله في كتابه، فينيغي أن يحمل ما ورد عنها على أحسن المحامل, وما أحسن ما قاله حسان ـ رضي الله عنه ـ فيها، كما في صحيح البخاري:
حصان رزان ما تزن بريبة وتصبح غرثى من لحوم الغوافل.
والأثر المذكور في السؤال قد أخرجه مالك في الموطأ: عن ابن شهاب أنه سئل عن رضاعة الكبير: فقال أخبرني عروة بن الزبير أن أبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة وكان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان قد شهد بدرا وكان تبنى سالما الذي يقال له سالم مولى أبي حذيفة كما تبنى رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد بن حارثة وأنكح أبو حذيفة سالما وهو يرى أنه ابنه أنكحه بنت أخيه فاطمة بنت الوليد بن عتبة بن ربيعة وهي يومئذ من المهاجرات الأول وهي من أفضل أيامى قريش فلما أنزل الله تعالى في كتابه في زيد بن حارثة ما أنزل فقال: ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ـ رد كل واحد من أولئك إلى أبيه، فإن لم يعلم أبوه رد إلى مولاه فجاءت سهلة بنت سهيل وهي امرأة أبي حذيفة وهي من بني عامر بن لؤي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله كنا نرى سالما ولدا وكان يدخل علي وأنا فضل وليس لنا إلا بيت واحد، فماذا ترى في شأنه؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم أرضعيه خمس رضعات فيحرم بلبنها وكانت تراه ابنا من الرضاعة فأخذت بذلك عائشة أم المؤمنين فيمن كانت تحب أن يدخل عليها من الرجال فكانت تأمر أختها أم كلثوم بنت أبي بكر الصديق وبنات أخيها أن يرضعن من أحبت أن يدخل عليها من الرجال وأبى سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أن يدخل عليهن بتلك الرضاعة أحد من الناس وقلن لا والله ما نرى الذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة بنت سهيل إلا رخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في رضاعة سالم وحده لا والله لا يدخل علينا بهذه الرضاعة أحد، فعلى هذا كان أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في رضاعة الكبير. وقد صححه ابن حبان وابن حزم، وقال أبو عمر ابن عبد البر: هذا حديث يدخل في المسند للقاء عروة وعائشة وسائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وللقائه سهلة بنت سهيل أيضا ـ وقال الحافظ ابن حجر: إسناده صحيح.
وأصل الحديث في صحيح البخاري.
وأخرج مسلم من طرق عن زينب بنت أم سلمة عن أمها: أنها قالت لعائشة: إنه يدخل عليك الغلام الأيفع الذي ما أحب أن يدخل علي، فقالت عائشة: أما لك في رسول الله أسوة؟ قالت: إن امرأة أبي حذيفة قالت: يا رسول الله، إن سالما يدخل علي وهو رجل، وفي نفس أبي حذيفة منه شيء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أرضعيه حتى يدخل عليك.
فالحاصل أن عائشة ـ رضي الله عنها ـ كانت ترى أن رضاع الكبير يحرم، وأنه ليس خاصا بسالم مولى أبي حذيفة، وهذا اجتهاد منها ـ رضي الله عنها ـ فإن أصابت فيه فلها أجران، وإن أخطأت فلها أجر، كما قال صلى الله عليه وسلم: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر. متفق عليه.
وليس في دخول أحد بسبب الرضاع على عائشة ـ رضي الله عنها ـ طعن عليها أو عيب، ولم ينقل عن أي صحابي إنكاره على أم المؤمنين ما ذهبت إليه في مسألة رضاع الكبير من جهة الشك أو الريبة أو الاتهام، وإنما يروج مثل هذه الشبهة السخيفة أهل البدع الذين من امتلأت قلوبهم بغضا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجرت ألسنتهم بسب الصحابة وأمهات المؤمنين والطعن فيهم، وراجع للفائدة الفتوى رقم: 32144.
والله أعلم.