الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حكم إثبات أو نفي الحد عن الله تعالى

السؤال

أود طرح استفسار حول العقيدة، فهل من الخطأ الاعتقاد بأن الله له حد نهاية في ذاته من جهة التحت بحيث لا يماس العرش، لأنه بائن من خلقه؟ مع العلم أنني أعتقد أن الله لا يقع في الجهة المخلوقة، وأن لا شيء يحوي الله أبدا، ونحن العالم في الجهة التحتية من الله، وهل الاعتقاد بذلك يجعلنا نشبه الله بالمخلوق من حيث أننا نجعل له حجما، وبالتالي من له نهاية في ذاته يكون له بداية، وذلك طبقا لمقولة الشيخ ابن المبارك حين سئل: بما نعرف ربنا؟ فقال: فوق سماواته، على عرشه، بائن من خلقه، قيل بحد؟ قال بحد لا يعلمه إلا هو . فأرجو بيان الإجابة بالتفصيل، وجزاكم الله خير الجزاء.

الإجابــة

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فمن عادة أئمة السلف ـ رحمهم الله ـ أنهم يكرهون التعمق في شأن كيفية صفات الله تعالى، ويتحرجون من إثبات أو نفي الألفاظ المجملة التي تحمل حقا وباطلا، ويقفون في باب الصفات عند الألفاظ الواردة في الكتاب والسنة، وقد تحرج من بعدهم من إطلاق ألفاظ لم تأت بها النصوص الشرعية وإن كانت ذات معنى صحيح، ومن ذلك ما نقله الذهبي في ترجمة أبي القاسم التيمي أنه سئل: هل يجوز أن يقال: لله حد، أو لا؟ وهل جرى هذا الخلاف في السلف؟ فأجاب: هذه مسألة أستعفي من الجواب عنها، لغموضها، وقلة وقوفي على غرض السائل منها، لكني أشير إلى بعض ما بلغني: تكلم أهل الحقائق في تفسير الحد بعبارات مختلفة، محصولها أن حد كل شيء موضع بينونته عن غيره، فإن كان غرض القائل: ليس لله حد: لا يحيط علم الحقائق به، فهو مصيب، وإن كان غرضه بذلك: لا يحيط علمه تعالى بنفسه، فهو ضال، أو كان غرضه: أن الله بذاته في كل مكان، فهو أيضا ضال. اهـ.

قال الذهبي: الصواب الكف عن إطلاق ذلك، إذ لم يأت فيه نص، ولو فرضنا أن المعنى صحيح، فليس لنا أن نتفوه بشيء لم يأذن به الله، خوفا من أن يدخل القلب شيء من البدعة، اللهم احفظ علينا إيماننا. اهـ.

ولما نبتت نابتة الجهمية الخبيثة، وادعت أن الله تعالى وتقدس في كل مكان، وأنه غير مباين لخلقه!! اضطر أهل العلم إلى النص على ما يبطل هذه المقولة الفاسدة، وقد عقد الإمام أبو سعيد الدارمي في نقضه على المريسي بابا في الحد والعرش قال فيه: ادعى المعارض أيضا أنه ليس لله حد ولا غاية ولا نهاية، وهذا هو الأصل الذي بنى عليه جهم ضلالاته واشتق منها أغلوطاته، وهي كلمة لم يبلغنا أنه سبق جهما إليها أحد من العالمين ... والله تعالى له حد لا يعلمه أحد غيره، ولا يجوز لأحد أن يتوهم لحده في نفسه، ولكن يؤمن بالحد ويكل علم ذلك إلى الله، ولمكانه أيضا حد، وهو على عرشه فوق سماواته فهذان حدان اثنان، وسئل ابن المبارك: بم نعرف ربنا؟ قال: بأنه على العرش، بائن من خلقه، قيل: بحد؟ قال: بحد... فمن ادعى أنه ليس لله حد فقد رد القرآن، وادعى أنه لا شيء، لأن الله حد مكانه في مواضع كثيرة من كتابه فقال: الرحمن على العرش استوى ـ أأمنتم من في السماء ـ يخافون ربهم من فوقهم ـ إني متوفيك ورافعك إلي ـ إليه يصعد الكلم الطيب ـ فهذا كله وما أشبهه شواهد ودلائل على الحد. اهـ.

وقد نقل ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابيه: درء التعارض، وبيان تلبيس الجهمية، وهذا هو خلاص القول في هذه المسألة: أن لله تعالى حد، ولكن لا يعلمه أحد غيره! ولما كان إثبات الحد دون هذا القيد قد يوهم الحصر ومحدوديته في المكان، نفاه بعض أهل العلم، يريدون بذلك نفي الإحاطة بالله علماً وإدراكاً، وأنه سبحانه مباين للأمكنة المحدثة، قال السجزي في رسالته في الرد على من أنكر الحرف والصوت: الحق أنّ الله سبحانه فوق العرش بذاته، من غير مماسة وأن الكرامية ومن تابعهم على قول المماسة ضلال ... وعند أهل الحق أن الله سبحانه مباين لخلقه بذاته فوق العرش بلا كيفية بحيث لا مكان ... وليس في قولنا: إنّ الله سبحانه فوق العرش تحديد، وإنما التحديد يقع للمحدثات، فمن العرش إلى ما تحت الثرى محدود، والله سبحانه فوق ذلك بحيث لا مكان ولا حد، لاتفاقنا أن الله سبحانه كان ولا مكان ثم خلق المكان، وهو كما كان قبل خلق المكان، وقد ذكر الله سبحانه في القرآن ما يشفي الغليل وهو قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى ـ فخص العرش بالاستواء، وذكر ملكه لسائر الأشياء فعلم أنّ المراد به غير الاستيلاء، وإنما يقول بالتحديد من يزعم أنه سبحانه بكل مكان، وقد علم أنّ الأمكنة محدودة، فإذا كان فيها بزعمهم كان محدوداً، وعندنا أنه مباين للأمكنة، ومن حلها ومن فوق كل محدث، فلا تحديد في قولنا، وهو ظاهر لا خفاء به. اهـ.
وقد علق على ذلك محقق الكتاب الدكتور محمد با كريم، بكلام طويل مفيد، فراجعه إن شئت، وقد قام الدكتور محمد بن خليفة التميمي بتحقيق ودراسة كتاب: العرش للإمام الذهبي، وعمل له مقدمات مفيدة، ومن جملتها فصل عن مسائل متعلقة بالعلو والإستواء، وتجد فيه تفصيلا مهما ونقولا مفيدة في هذا الموضوع، وقد ذكر في خلاصة الأقوال في مسألة إثبات الحد لله تعالى ثلاثة أقوال:

ـ القول الأول: قول من يقول: هو فوق العرش ولا يوصف بالتناهي ولا بعدمه، إذ لا يقبل واحداً منهما، فعندهم أن الله فوق العرش ولا يوصف بأن له قدراً، وهذا يقوله بعض أهل الكلام والفقه والحديث والتصوف من الكلابية والكرامية والأشعرية ومن وافقهم من أتباع الأئمة من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وغيرهم.
ـ القول الثاني: قول من يقول: هو غير متناه، إما من جانب، وإما من جميع الجوانب، وهذا يقوله أيضاً طوائف من أهل الكلام والفقهاء وغيرهم، وحكاه الأشعري في المقالات عن الطوائف.
ـ القول الثالث: قول السلف والأئمة وأهل الحديث والكلام والفقه والتصوف الذين يقولون: له حد لا يعلمه غيره. اهـ.

وممن تناول هذه المسألة أيضا: ابن سحمان في تنبيه ذوي الألباب السليمة عن والوقوع في الألفاظ المبتدعة الوخيمة وراجع لمزيد الفائدة الفتاوى التالية أرقامها: 53925، 132417، 118323، 134190، 135889

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

المقالات

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني