السؤال
أخبركم والله شهيد أن موقعكم هذا من أهم المواقع الإسلامية، وهو من أحبها إلى قلبي جزيتم الجنة برحمة منه وفضل، وسؤالي هو: كنت أقرأ في مجموع فتاوى ابن تيمية فأتيت على مسألة حروف القرآن وحروف كلام المخلوقين، فأطال الشيخ فيها وذكر قولين لأهل السنة: الأول: أن الحرف حرفان مخلوق وهو ما في كلام المخلوقين، وغير مخلوق وهو ما في كلام الله، والثاني: أن الحرف واحد سواء في كلام الله أو كلام المخلوقين وهو غير مخلوق لأنه من كلام الله، وانتهى الشيخ إلى أنه لا تناقض بين القولين، لأن الأول يقول إنهما حرفان بالعين والثاني يقول الحرف حرف واحد بالنوع أي أن الحروف التي نتكلم بها يوجد نظائرها في القرآن، ولكنها ليست هي هي بل حروف كلامه سبحانه لا تشبه حروفنا كما ذكر الشيخ، وفهمت المسألة على ذلك، وكنت أقرأ من موقعكم شرح العقيدة الواسطية للشيخ عبد الله الغنيمان تفريغ الشريط السادس فقرأت عبارة: أن الله يتكلم بحرف وصوت لا يشبه صوت المخلوقين ـ فسمعت المقطع المفرغ فوجدت أن الشيخ قد قال في هذا الموضع إن الله يتكلم بحروف وأصوات غير حروف العباد وأصواتهم، فلما حذفتم أنتم العبارة واستبدلتموها بما ذكرت خطر في بالي أن الشيخ الغنيمان رجع عن قوله سيما وأن الشيخ الغنيمان في شرح لمعة الاعتقاد قال إن الله تحدى العرب بالقرآن لأنه أنزله بحروفهم التي يتكلمون بها، ولم يشير الشيخ إلى أن حروف الله غير حروف المخلوق، وإن كان من الممكن أن يكون الشيخ كان يقصد نوع الحرف وليس عين الحرف لكن هذا زاد من شكي، فهل رجع الشيخ الغنيمان عن قوله إن حروف الله وصوته غير حروف العباد وأصواتهم؟ وهل ما ذكره شيخ الإسلام هو الحق وليس هناك خلاف في المسألة، وأن ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية هو عقيدة أهل السنة والجماعة ومجمع عليه؟ أعلم من كلامه ـ رحمه الله ـ أن ما قام به سبحانه غير ما قام بغيره، ولا يشترك مع المخلوق في شيء، ولو تأكدتم لي من الشيخ عبد الله الغنيمان شخصيا عن رأيه في المسألة.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنعتذر للأخ السائل عن التواصل مع الشيخ الغنيمان وسؤاله، وبإمكانه هو محاولة ذلك، وأما ما ذكره من نص تفريغ شرح الشيخ للعقيدة الواسطية على موقعنا، فقد أحلناه على قسم الصوتيات للتأكد منه، وأما المسألة التي يسأل عنها فقد أشبع شيخ الإسلام الكلام فيها وأطال، وذكر مذاهب الناس واختلافهم، وذلك في المجلد الثاني عشر من مجموع الفتاوى، ثم قال في آخر الكلام ـ ص 598: والصواب في هذا الباب وغيره: مذهب سلف الأمة وأئمتها أنه سبحانه لم يزل متكلماً إذا شاء وأنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وأن كلماته لا نهاية لها، وأنه نادى موسى بصوت سمعه موسى، وإنما ناداه حين أتى لم يناده قبل ذلك، وأن صوت الرب لا يماثل أصوات العباد، كما أن علمه لا يماثل علمهم وقدرته لا تماثل قدرتهم، وأنه سبحانه بائن عن مخلوقاته بذاته وصفاته ليس في مخلوقاته شيء من ذاته، وصفاته القائمة بذاتها، ولا في ذاته شيء من مخلوقاته، وإن أقوال أهل التعطيل والاتحاد، الذين عطلوا الذات أو الصفات أو الكلام أو الأفعال باطلة، وأقوال أهل الحلول الذين يقولون بالحلول في الذات أو الصفات باطلة. اهـ.
ولتفصيل ذلك يمكن الرجوع لكلامه بطوله خاصة في الصفحات من:64 إلى 74 ـ وقد تعرض ابن القيم في الصواعق المرسلة لهذه المسألة ولخصها ابن الموصلي في مختصره تلخيصا حسنا فقال: إذا قيل حروف المعجم قديمة أو مخلوقة فجوابه أن الحرف حرفان: فالحرف الواقع في كلام المخلوقين مخلوق، وحروف القرآن غير مخلوقة، فإن قيل: كيف الحرف الواحد مخلوق وغير مخلوق، قيل: ليس بواحد بالعين، وإن كان واحدا بالنوع، كما أن الكلام ينقسم إلى مخلوق وغير مخلوق، فهو واحد بالنوع لا بالعين، وتحقيق ذلك أن الشيء له أربع مراتب: مرتبة في الأعيان، ومرتبة في الأذهان ومرتبة في اللسان، ومرتبة في الخط، فالمرتبة الأولى وجوده العيني، والثانية وجوده الذهني، والثالثة وجوده اللفظي والرابعة وجوده الرسمي، وهذه المراتب الأربعة تظهر في الأعيان القائمة بنفسها، كالشمس مثلا، وفي أكثر الأعراض أيضا كالألوان وغيرها، ويعسر تمييزه في بعضها كالعلم والكلام، أما العلم فلا يكاد يحصل الفرق بين مرتبته في الخارج ومرتبته في الذهن، بل وجوده الخارجي مماثل لوجوده الذهني، وأما الكلام، فإن وجوده الخارجي ما قام باللسان، ووجوده الذهني ما قام بالقلب، ووجوده الرسمي ما أظهر الرسم، فأما وجوده اللفظي فقد اتحدت فيه المرتبتان الخارجية واللفظية ومن مواقع الاشتباه أيضا أن الصوت الذي يحصل له إنشاء الكلام مثل الصوت الذي يحصل به أداؤه وتبليغه، وكذلك الحرف، فصوت امرئ القيس وحروفه من قوله: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ـ كصوت المنشد لذلك حكاية عنه وحرفه فإذا قال القائل: هذا كلامك أو كلام امرئ القيس؟ كان السؤال مجملا تحتمل الإشارة فيه معنيين:
أحدهما: أن يراد الإشارة إلى صوت المؤدي وحروفه.
والثاني: أن يراد الإشارة إلى الكلام المؤدَّى بصوت هذا وحروفه.
والغالب إرادته هو الثاني، ولهذا يحمد القائل له أولا أو يذم، وإنما يحمد الثاني أو يذم على كيفية الأداء وحسن الصوت وقبحه، والكلام يضاف إلى من قاله مبتديا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا، فإذا قال الواحد منا: الأعمال بالنيات ـ مؤديا له عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يقل أحد إن هذا قولك وكلامك، وإن قيل: إنك حسن الأداء له، حسن التلفظ به، وهذا الذي قام به وهو حسنه وفعله وعليه يقع اسم الخلق، ولشدة ارتباطه بأصل الكلام عسر التمييز، ومن هاهنا غلطت الطائفتان إحداهما: جعلت الكل مخلوقا منفصلا، والثانية: جعلت الكل قديما، وهو عين صفة الرب نظرا إلى من تكلم به أولا، والحق ما عليه أئمة الإسلام كالإمام أحمد والبخاري وأهل الحديث: أن الصوت صوت القارئ والكلام كلام الباري، وقد اختلف الناس هل التلاوة غير المتلو أم هي المتلو؟ على قولين، والذين قالوا: التلاوة هي المتلو، فليست حركات الإنسان عندهم هي التلاوة، وإنما أظهرت التلاوة وكانت سببا لظهورها، وإلا فالتلاوة عندهم هي نفس الحروف والأصوات وهي قديمة، والذين قالوا التلاوة غير المتلو طائفتان، إحداهما قالت: التلاوة هي هذه الحروف والأصوات المسموعة، وهي مخلوقة، والمتلو هي المعنى القائم بالنفس وهو قديم، وهذا قول الأشعري، والطائفة الثانية قالوا: التلاوة هي قراءتنا وتلفظنا بالقرآن والمتلو هو القرآن العزيز والمسموع بالآذان بالأداء من في رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي: المص، حم عسق كهيعص ـ حروف وكلمات وسور وآيات تلاه عليه جبرائيل كذلك وتلاه هو على الأمة كما تلاه عليه جبرائيل، وبلغه جبرائيل عن الله تعالى كما سمعه، وهذا قول السلف وأئمة السنة والحديث، فهم يميزون بين ما قام بالعبد وما قام بالرب، والقرآن عندهم جميعه كلام الله، حروفه ومعانيه، وأصوات العباد وحركاتهم وأداؤهم وتلفظهم، كل ذلك مخلوق بائن عن الله. اهـ.
والله أعلم.