السؤال
ما الرد على هذه الشبهة مع ذكر أدلة تقنعني: لو أزلنا التكرار من القرآن الكريم، فلن يبقى منه الكثير! وأنه ليس كلام الله! لماذا هذا التكرار الكثير جدًّا في القرآن؟ وإن لم يكن التكرار في اللفظ كان في المعنى! وأيضًا تكرار القصص، وهل التكرار أسلوب بلاغي من أساليب البلاغة؟ وهل التكرار شيء طبيعي عند العرب في زمان الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن أساليب العرب في الكلام؟ وهل كل التكرار في القرآن له فائدة؟ وهل التكرار لا يقدح في القرآن الكريم؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن هذه الشبهة ليست جديدة، والتكرار أسلوب عربي معروف عند العرب في العهد الأول، وكل ما جاء في القرآن منه له فائدة، وقد رد علي هذه الشبهة جمع من المعاصرين، ومن أحسن ما كتب فيها ما جاء في كتاب: شبهات المشككين ـ وهو كتاب ألفته مجموعة من العلماء، فقد جاء في هذا الكتاب في معرض الكلام على الرد على شبهة التكرار: يقع التكرار في القرآن الكريم على وجوه: مرة يكون المكرر أداة تؤدي وظيفة في الجملة بعد أن تستوفي ركنيها الأساسيين، وأخرى تتكرر كلمة مع أختها لداع، بحيث تفيد معنى لا يمكن الحصول عليه بدونها، فاصلة تكرر في سورة واحدة على نمط واحد، قصة تتكرر في مواضع متعددة مع اختلاف في طرق الصياغة، وعرض الفكرة، بعض الأوامر، والنواهي، والإرشادات، والنصح مما يقرر حكماً شرعيًّا، أو يحث على فضيلة، أو ينهى عن رذيلة، أو يرغب في خير، أو ينفر من شر، وتكرار القرآن في جميع المواضع التي ذكرناها، والتي لم نذكرها مما يلحظ عليها سمة التكرار، في هذا كله يباين التكرار في القرآن ما يقع في غيره من الأساليب؛ لأن التكرار، وهو فن قولي معروف، قد لا يسلم الأسلوب معه من القلق والاضطراب، فيكون هدفًا للنقد والطعن؛ لأن التكرار رخصة في الأسلوب إذا صح هذا التعبير، والرخص يجب أن تؤتى في حذر ويقظة.
ـ وظيفة التكرار في القرآن:
مع هذه المزالق كلها جاء التكرار في القرآن الكريم محكمًا، وقد ورد فيه كثيرًا، فليس فيه موضع قد أخذ عليه دَعْ دعاوى المغالين، فإن بينهم وبين القرآن تارات، فهم له أعداء وإذا أحسنا الفهم لكتاب الله فإن التكرار فيه مع سلامته من المآخذ والعيوب يؤدي وظيفتين:
أولاهما: من الناحية الدينية.
ثانيهما: من الناحية الأدبية.
فالناحية الدينية باعتبار أن القرآن كتاب هداية وإرشاد وتشريع لا يخلو منها فن من فنونه، وأهم ما يؤديه التكرار من الناحية الدينية هو تقرير المكرر وتوكيده وإظهار العناية به ليكون في السلوك أمثل وللاعتقاد أبين.
أما الناحية الأدبية: فإن دور التكرار فيها متعدد، وإن كان الهدف منه في جميع مواضعه يؤدي إلى تأكيد المعاني وإبرازها في معرض الوضوح والبيان، وليكن حديثنا عنه على حسب المنهج الذي أثبتناه في صدر هذا البحث.
ـ تكرار الأداة: ومن أمثلتها قوله تعالى: ثم إن ربك للذين هاجروا من بعدما فتنوا ثم جاهدوا وصبروا إن ربك من بعدها لغفور رحِيِم ـ ثم إن ربك للذيِن عملوا السوء بجهالة ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم ـ والظاهر من النظر في الآيتين تكرار: إنَّ ـ فيهما، وهذا الظاهر يقتضي الاكتفاء ب: إنَّ ـ الأولى، ولم يطلب إلا خبرها، وهو في الموضعين أعني الخبر: لغفور رحيم ـ لكن هذا الظاهر خولف وأعيدت: إنَّ ـ مرة أخرى، ولهذه المخالفة سبب، وهذا السبب هو طول الفصل بين: إنَّ ـ الأولى وخبرها، وهذا أمر يُشعِر بتنافيه مع الغرض المسوقة من أجله: إنَّ ـ وهو التوكيد، لهذا اقتضت البلاغة إعادتها لتلحظ النسبة بين الركنين على ما حقها أن تكون عليه من التوكيد، على أن هناك وظيفة أخرى هي: لو أن قارئاً تلا هاتين الآيتين دون أن يكرر فيهما: إنَّ ـ ثم تلاهما بتكرارها مرة أخرى لظهر له الفرق بين الحالتين: قلق وضعف في الأولى، وتناسق وقوة في الثانية، ومن أجل هذا الطول كررت في قول الشاعر: وإن امرأ طَالَتْ مَوَاثِيقُ عَهْدِهِ عَلَى مِثْلِ هَذاَ إنَّهُ لَكَرِيمُ ـ يقول ابن الأثير رائياً هذا الرأي:.. فإذا وردت: إنَّ ـ وكان بين اسمها وخبرها فسحة طويلة من الكلام، فإعادة: إنَّ ـ أحسن في حكم البلاغة والفصاحة كالذي تقدّم من الآيات.
ـ تكرار الكلمة مع أختها: ومن أمثلتها قوله تعالى: أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون ـ فقد تكررت: هم ـ مرتين، الأولى مبتدأ خبرها: الأخسرون ـ والثانية ضمير فصل جيء به لتأكيد النسبة بين الطرفين وهي: هُمْ الأولى بالأخسرية، وكذلك قوله تعالى: أولئك الذين كفروا بربهم وأولئك الأغلال فِي أعناقهم وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ـ تكررت هنا: أولئك ـ ثلاث مرات، ولم تجد لهذه الكلمة المكررة مع ما جاورها إلا حسنًا وروعة، فالأولى والثانية: تسجلان حكماً عامًّا على منكري البعث: كفرهم بربهم، وكون الأغلال في أعناقهم، والثالثة: بيان لمصيرهم المهين، ودخولهم النار، ومصاحبتهم لها على وجه الخلود الذي لا يعقبه خروج منها، ولو أسقطت: أَولئك ـ من الموضعين الثاني والثالث لرك المعنى، واضطرب، فتصبح الواو الداخلة على: الأغلال في أعناقهم ـ واو حال، وتصبح الواو الداخلة على: أَصحاب النار هم فيها خالدون ـ عاطفة عطفاً يرك معه المعنى؛ لذلك حسن موضع التكرار في الآية، لما فيه من صحة المعنى وتقويته، وتأكيد النسبة في المواضع الثلاثة للتسجيل عليهم بسوء المصير.... اهـ.
ثم واصل المؤلفون الحديث عن التكرار في الفواصل، وفي بعض السور، فيمكنك الاطلاع على الكتاب، وقد ألف الكرماني في موضوع التكرار كتابه: أسرار التكرار في القرآن ـ وبين بلاغة القرآن، وفوائد التكرار فيه بشكل مفصل، وقد قال في مقدمة الكتاب: فإن هذا كتاب أذكر فيه الآيات المتشابهات التي تكررت في القرآن وألفاظها متفقة، ولكن وقع في بعضها زيادة، أو نقصان، أو تقديم، أو تأخير، أو إبدال حرف مكان حرف، أو غير ذلك مما يوجب اختلافًا بين الآيتين، أو الآيات التي تكررت من غير زيادة ولا نقصان، وأبين ما السبب في تكرارها، والفائدة في إعادتها، وما الموجب للزيادة والنقصان، والتقديم والتأخير، والإبدال، وما الحكمة في تخصيص الآية بذلك دون الآية الأخرى، وهل كان يصلح ما في هذه السورة مكان ما في السورة التي تشاكلها، أم لا ليجري ذلك مجرى علامات تزيل إشكالها، وتمتاز بها عن أشكالها... اهـ.
ومن الكتب المفيدة في هذا الأمر أيضًا كتاب: خصائص التعبير القرآني وسماته البلاغية، وهو رسالة دكتوراه كتبها الدكتور: عبد العظيم إبراهيم محمد المطعني ـ رحمه الله ـ وراجع الفتاوى التالية أرقامها: 41664، 116074، 57648، 103034، للاطلاع على المزيد في الموضوع.
والله أعلم.