السؤال
ما رأي الشرع: في هذا الكلام: أحدهم يقول: إنّ الرسول صلى الله عليه وسلّم كان يقرأ ويكتب ب 73 لسانا.. وسمّي أمّيا لأنه كان من أهل مكة.. ومكة من أمهات القرى.. ويطلق عليها أم القرى... والله يقول في محكم كتابه: هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة ـ فكيف كان يعلمهم ما لا يحسن؟.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فبداية ننبه على أن أمية النبي صلى الله عليه وسلم بعدم كتابته وقراءته، ليست عيبا ولا سُبَّة نتلمس لها مخرجا وعلاجا ولا شينا ولا نقصا نتطلب له سترا أو كمالا!! بل هي في حقه صلى الله عليه وسلم: كمال وإعجاز، وبرهان صدق على النبوة والرسالة، وقد سبق لنا بيانه في الفتويين رقم: 11425، ورقم: 78544، وتجد فيهما الدليل على أميته صلوات الله وتسليماته عليه.
وأما دعوى أن تسميته صلى الله عليه وسلم أميا، نسبة لأم القرى ـ مكة ـ فهذا قد قيل بالفعل، قال ابن عطية في المحرر الوجيز: والأمي ـ بضم الهمزة ـ قيل: نسب إلى أم القرى وهي مكة، واللفظة على هذا مختصة بالنبي صلى الله عليه وسلم وغير مضمنة معنى عدم الكتابة، وقيل: هو منسوب لعدمه الكتابة والحساب إلى الأم، أي هو على حال الصدر عن الأم في عدم الكتابة، وقالت فرقة: هو منسوب إلى الأمة، وهذا أيضا مضمن عدم الكتابة، لأن الأمة بجملتها غير كاتبة حتى تحدث فيها الكتابة كسائر الصنائع. اهـ.
وقد ذكر الطاهر ابن عاشور في التحرير والتنوير هذه الأوجه الثلاثة، ثم قال: والأمية وصف خص الله به من رسله محمدا صلى الله عليه وسلم، إتماما للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به، فجعل الأمية وصفا ذاتيا له، ليتم بها وصفه الذاتي وهو الرسالة، ليظهر أن كماله النفساني كمال لدني إلهي، لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه، مع أنها في غيره وصف نقصان، لأنه لما حصل له من المعرفة وسداد العقل ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق، وكان على يقين من علمه، وبينة من أمره، ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين، صارت أميته آية على كون ما حصل له إنما هو من فيوضات إلهية. اهـ.
ثم على التسليم بأن الأمي منسوب إلى أم القرى، فهذا لا ينفي عدم قراءته صلى الله عليه وسلم وكتابته، لأن ذلك ثابت بأدلة أخرى، من أوضحها قوله تعالى: وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ { العنكبوت: 48}.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: إنا أمة أمية، لا نكتب ولا نحسب، الشهر هكذا وهكذا ـ يعني مرة تسعة وعشرين، ومرة ثلاثين. رواه البخاري ومسلم.
وأما استدلال المعترض بقوله تعالى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ {لجمعة: 2} وقوله: كيف يعلمهم ما لا يحسن؟ فلا وجه له، لأن الآية ليس فيها أنه يعلمهم القراءة والكتابة! وإنما يعلمهم ما آتاه الله تعالى من الكتاب والحكمة، وفي الآية ما يوضح ذلك، وهو وصف الأمة بالأمية، فالبعثة النبوية لم ترفع عنهم هذا الوصف، ولكنها رفعت عنهم بالجهل والضلالة، وذلك حاصل بالعلم بكتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وتزكية النفوس بذلك، قال المراغي في تفسيره: أي هو الذي أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم إلى الأمة الأمية التي لا تقرأ ولا تكتب وهم العرب، أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنا أمة أميّة لا نكتب ولا نحسب ـ وهذا الرسول من جملتهم أي مثلهم، ومع ذلك يتلو عليهم آيات الكتاب ليجعلهم طاهرين من خبائث العقائد والأعمال، ويعلمهم الشرائع والأمور العقلية التي تكمل النفوس وتهذبها، وإلى ذلك أشار البوصيرى بقوله: كفاك بالعلم في الأميّ معجزة... في الجاهلية والتأديب في اليتم... وخلاصة ما سلف: أنه ذكر الغرض من بعثة هذا الرسول، وأجملها في أمور:
1ـ أنه يتلو عليهم آيات القرآن التي فيها هدايتهم وإرشادهم لخير الدارين، مع كونه أميا لا يكتب ولا يقرأ، لئلا يكون هناك مطعن في نبوته، بأن يقولوا إنه نقله من كتب الأولين، كما أشار إلى ذلك بقوله: وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ ... اهـ.
والله أعلم.