السؤال
أب لديه ثلاثة أبناء: ولد، وبنتان. طلق والدتهم منذ فترة طويلة، وتزوج أكثر من مرة، ويقاطع أبناءه، ولم يروا منه خيرا، بل كل القسوة، والجحود، واتهام والدتهم العفيفة، المحصنة بالزنا، وأنهم أولاد زنا، ومع ذلك فإن الأبناء كلما حاولوا أن يبروا والدهم، خوفا من عقوق الوالدين، يرفض، ويصدهم، بل وحاول التفريق بين بناته وأزواجهن، وتحريض أزواجهن عليهن ليطلقوهن.
وفي آخر لقاء جمع الأب بابنه، وإحدى بناته، تطاول الأب على والدتهم، واتهمها بالزنا، فلم يتحمل الابن، وسب والده، ولكنه ندم، واستغفر.
والسؤال: كيف يكون بر مثل هذا الأب؟ وهل يكفي الاتصال بالهاتف، مع العلم أن هذا الاتصال حتى لو تمَّ، ووافق أن ردَّ عليهم، سيكون رده كله إهانات، واتهامات باطلة؟
والسؤال الثاني: الابن ندم على سبِّ والده، واستغفر، ولكنه لن يستطيع الاعتذار له.
فماذا يفعل؟
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن صح ما ذكر عن هذا الوالد، فقد بلغ من السوء مبلغا عظيما، فاتهامه زوجته بالزنا، إن لم تكن له عليه بينة، فهو قاذف لها، والقذف كبيرة من كبائر الذنوب، رتَّب الله عليه عقوبة في الدنيا، وعقوبة في الآخرة، وسبق أن بينا ذلك في الفتوى رقم: 93577.
ونفيه نسب أولاده بمجرد الظن، أمر محرم، وهو أيضا يتضمن قذف زوجته بالزنا، وراجعي في خطورة نفي النسب، الفتوى رقم: 123422. ومحاولته التفريق بين بناته وأزواجهن، تخبيب، وفساد في الأرض، كما أوضحنا في الفتوى رقم: 118100.
فهذه المنكرات ظلمات، بعضها فوق بعض، ولكنها مع ذلك لا تسوغ عقوقه، فيجب عليكم بره على كل حال، ومن أعظم بركم به، سعيكم في صلاحه، بالدعاء له أولا، فالله عز وجل على كل شيء قدير، وقلوب العباد بين يديه يقلبها كيف يشاء، وانظري الفتوى رقم: 119608، ففيها بيان آداب الدعاء.
ثم إن من وسائل إصلاحه أيضا: مناصحته بالحسنى، وتذكيره بالله تعالى، والأولى أن يقوم بذلك من ترجون أن يستجيب لكلامهم من العقلاء والفضلاء.
والواجب عليكم الحذر من الإساءة إليه بأدنى إساءة، ولو أساء هو، فإن بره لا يسقط عن أولاده بحال. وقد أخطأ أخوكم خطأ عظيما بسبِّه والده، وقد أحسن بندمه على ذلك واستغفاره، وليجعل من ذلك توبة نصوحا متحققة الشروط، وقد أوضحنا هذه الشروط في الفتوى رقم: 29785، فعليه أن يستسمح أباه، إلا إذا خشي أن يترتب على ذلك مفسدة أعظم، فليكثر من الدعاء له، والاستغفار.
وكما أسلفنا فإن بِرَّ هذا الوالد واجب، وصلته تكون بما يتيسر، قال تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ {التغابن:16}، ويرجع في الصلة إلى العرف، فما عدَّه الناس صلة، كان كذلك، وما لا، فلا، فإن كان الاتصال عليه قد يترتب عليه ضرر أعظم، فيمكن الاكتفاء بالإهداء إليه، ومساعدته، وخاصة عند حاجته، فالإحسان له أثره العظيم في امتلاك القلوب.
قال الشاعر:
أحْسِن إلى الناس تستعبد قلوبهُمُ * فطالما استعبد الإنسانَ إحسانُ.
هذا بالإضافة إلى الحلم، والصبر، واحتمال الأذى، ومقابلة الإساءة بالإحسان، قال تعالى: وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ {فصلت:34}.
قال ابن كثير: وقوله: ولا تستوي الحسنة ولا السيئة: أي: فرق عظيم بين هذه، وهذه: ادفع بالتي هي أحسن ـ أي: من أساء إليك، فادفعه عنك بالإحسان إليه، كما قال عمر -رضي الله عنه-: ما عاقبت من عصى الله فيك، بمثل أن تطيع الله فيه ـ وقوله: فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم ـ وهو الصديق، أي: إذا أحسنت إلى من أساء إليك، قادته تلك الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك، والحنو عليك، حتى يصير كأنه ولي لك حميم أي: قريب إليك من الشفقة عليك، والإحسان إليك... اهـ.
نسأل الله تعالى أن يتوب على والدكم، ويصلح حاله، ويرزقه رشده وصوابه.
والله أعلم.