الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن من القواعد المقررة في الشرع أن الأصل في جميع الأشياء هو الإباحة، والطهارة، حتى يقوم موجب التحريم؛ قال ابن تيمية: لست أعلم خلاف أحد من العلماء السالفين في أن ما لم يجئ دليل بتحريمه فهو مطلق غير محجور، وقد نص على ذلك كثير ممن تكلم في أصول الفقه وفروعه، وأحسب بعضهم ذكر في ذلك الإجماع يقينًا، أو ظنًّا كاليقين. اهـ.
وقال: الفقهاء كلهم اتفقوا على أن الأصل في الأعيان الطهارة. اهـ.
فالأصل هو إباحة الكريمات، وطهارتها حتى يتبين اشتمالها على ما يوجب التحريم -من الكحول، أو غيره-، وأما إذا لم يعلم ذلك فالأصل هو السلامة، والإباحة.
وكذلك فإن المواد المشتملة على الكحول ليست محرمة بإطلاق، وإنما في حكمها نظر، وتفصيل.
وخلاصة ما نقرره في هذا: أن الكحول التي من شأنها الإسكار يرى جمع غفير من العلماء المعاصرين تكييفها على أنها خمر -والخمر نجسة عند عامة العلماء-، فلا يجوز استعمالها -مع تقرير أنه ليس كل ما يسمى كحولًّا عند الكيميائيين، يكون مسكرًا لمجرد دخوله تحت مجموعة الكحوليات-.
لكن إن كانت الكحول قد استحالت أثناء التصنيع إلى مادة أخرى غير مسكرة، فحينئذ يجوز استعمالها، بناء على رجحان القول بطهارة النجاسة بالاستحالة.
وكذلك إن كانت نسبة الكحول قليلة لا يظهر أثرها في لون المستحضر، ولا طعمها، ولا ريحها، فلا حرج في استعماله؛ قال ابن عثيمين: الكحول مادة مسكرة -كما هو معروف- فتكون خمرًا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل مسكر حرام). وفي رواية: (كل مسكر خمر). وعلى هذا؛ فإذا خالطت هذه الكحول شيئًا، ولم تضمحل بما خالطته، صار هذا الشيء حرامًا؛ لأن هذا الخليط أثر فيه.
أما إذا انغمرت هذه الكحول بما خالطته، ولم يظهر لها أثر، فإنه لا يحرم بذلك؛ لأن أهل العلم -رحمهم الله- أجمعوا على أن الماء إذا خالطته نجاسة لم تغيره، فإنه يكون طهورًا، والنسبة بين الكحول وبين ما خالطه قد تكون كبيرة، وقد تكون صغيرة، بمعنى أن هذه الكحول قد تكون قوية، فيكون اليسير منها مؤثرًا في المخالط، وقد تكون ضعيفة، فيكون الكثير منها غير مؤثر، والمدار كله على التأثير. اهـ.
على أن هناك اتجاهًا آخر في مسألة الكحول، وهو: أنها ليست خمرًا أصلًا، وإن أسكرت؛ لأن الخمر شرعًا هو الشراب المسكر، أي: ما شأنه أن يشرب ويسكر، والكحول ليست شرابًا، وقد تبنت هذه الوجهة دار الإفتاء المصرية في فتوى لها مطولة -منشورة على موقعها-، وراجعي للمزيد الفتوى رقم: 269512.
وبهذا يتبين أنه ليس كل مستحضر يحوي الكحول يعد محرمًا ونجسًا يحرم استعماله، بل هو محتمل، وكذلك ليست كل الكريمات تحوي كحولًّا أصلًا؛ فلا يلزم -بل قد لا يشرع أصلًا- نهي كل من تضع كريمًا عن مس المصحف الشريف، أو غيره، لمكان الاحتمال.
بل حتى إن علمت أن في كريم ما كحولًا على وجه يحرم استعماله، فلا يشرع لك الإنكار على غيرك ممن لا يعتقد التحريم؛ لأن المسألة اجتهادية، ومحل خلاف معتبر، وما كان بهذه المثابة من المسائل فلا إنكار فيه في الجملة، وقد أخرج أبو نعيم في الحلية: عن حفص بن غياث، قال: سمعت سفيان الثوري يقول: إذا رأيت الرجل يعمل العمل الذي قد اختلف فيه وأنت ترى غيره فلا تنهه. اهـ. وانظري لمزيد بيان الفتوى رقم: 228658.
وقد لاحظنا -أيتها الأخت من أسئلتك السابقة- أنك تعانين من فرط الوساوس، ونخشى أن يكون سؤالك، وما فيه من تفريعات ثمرة من الثمار النكدة للوساوس، فنعيد لك الوصية بالإعراض عن الوساوس جملة، والكف عن التشاغلِ بها، وقطع الاسترسالِ معها، وعدم السؤال عنها، والضراعة إلى الله أن يعافيك منها.
وراجعي للفائدة حول علاج الوسواس الفتوى رقم: 3086.
والله أعلم.