الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فنسأل الله أن يوفقك، وأن يهديك سواء السبيل، ولا شك أنك قد بالغت في نفيك الشعور بالغيرة، فإن الغيرة على الحريم لا يكاد يخلو منها بشر، بل حتى الحيوانات تغار على حريمها، لكن الغيرة تضعف عند بعض الناس.
قال ابن تيمية: ولهذا جعل الله في بني آدم وغيرهم من الحيوان، النفرة من أن يشارك الرجل في محل استمتاعه، بخلاف نفورهم عن فاحشة غير أهله، حتى يزني الرجل الفاجر بنساء الناس، وأبناء الناس ومماليكهم، ويعظم عليه أن يرى مثل ذلك في نسائه وأولاده ومماليكه؛ لما في النفوس من الغيرة وكراهة المشاركة في محل المتعة. اهـ. من جامع المسائل.
وأما أنواع الغيرة المحمودة المطلوبة شرعا فهي: الغيرة لله أن تنتهك محارمه وتضيع حدوده، والغيرة على القلب أن يسكن إلى غير الله وأن يأنس بسواه، وغيرة المرء على حرمته أن يتطلع إليها غيره.
قال ابن القيم: وأصل الغيرة الحمية والأنفة. والغيرة نوعان: غيرة للمحبوب، وغيرة عليه. فأما الغيرة له فهي الحمية له، والغضب له إذا استهين بحقه، وانتقصت حرمته، فيغضب له المحب، ويحمي، وتأخذه الغيرة له بالمبادرة إلى التغيير ومحاربة من آذاه. فهذه غيرة المحبين حقا، وهي من غيرة الرسل وأتباعهم لله، ممن أشرك به، واستحل محارمه، وعصى أمره. والدين كله في هذه الغيرة، بل هي الدين، وما جاهد مؤمن نفسه وعدوه، ولا أمر بمعروف ولا نهى عن منكر إلا بهذه الغيرة. ومتى خلت من القلب، خلا من الدين، فالمؤمن يغار لربه من نفسه ومن غيره، إذا لم يكن له كما يحب.
ثم قال: وأما الغيرة على المحبوب، فهي أنفة المحب وحميته أن يشاركه في محبوبه غيره.
وغيرة العبد على محبوبه نوعان: غيرة ممدوحة يحبها الله، وغيرة مذمومة يكرهها الله. فالتي يحبها الله أن يغار عند قيام الريبة، والتي يكرهها أن يغار من غير ريبة، بل من مجرد سوء الظن، وهذه الغيرة تفسد المحبة، وتوقع العداوة بين المحب ومحبوبه؛ قال صلى الله عليه وسلم: "إن من الغيرة ما يحب الله، ومنها ما يكره الله. فالغيرة التي يحبها الله الغيرة في الريبة، والغيرة التي يكرهها الله الغيرة في غير ريبة"
وملاك الغيرة وأعلاها ثلاثة أنواع: غيرة العبد لربه أن تنتهك محارمه وتضيع حدوده، وغيرته على قلبه أن يسكن إلى غيره، وأن يأنس بسواه، وغيرته على حرمته أن يتطلع إليها غيره، فالغيرة التي يحبها الله ورسوله دارت على هذه الأنواع الثلاثة، وما عداها فإما من خدع الشيطان، وإما بلوى من الله؛ كغيرة المرأة على زوجها أن يتزوج عليها .اهـ. باختصار من روضة المحبين.
والغيرة المحمودة منها غيرة واجبة، ومنها غيرة مستحبة مندوبة.
قال ابن تيمية: فالغيرة المحبوبة هي ما وافقت غيرة الله تعالى، وهذه الغيرة هي أن تنتهك محارم الله، وهي أن تؤتى الفواحش الباطنة والظاهرة، لكن غيرة العبد الخاصة هي من أن يشركه الغير في أهله، فغيرته من فاحشة أهله، ليست كغيرته من زنا الغير؛ لأن هذا يتعلق به، وذاك لا يتعلق به إلا من جهة بغضه لمبغضة الله.
ولهذا كانت الغيرة الواجبة عليه هي في غيرته على أهله، وأعظم ذلك امرأته، ثم أقاربه ومن هو تحت طاعته. ولهذا كان له إذا زنت أن يلاعنها؛ لما عليه في ذلك من الضرر، بخلاف ما إذا زنا غير امرأته. ولهذا فالغيرة الواجبة ما يتضمنه النهي عن المخزي. والغيرة المستحبة ما أوجبت المستحب من الصيانة. وأما الغيرة في غير ريبة، وهي الغيرة في مباح لا ريبة فيه، فهي مما لا يحبه الله، بل ينهى عنه إذا كان فيه ترك ما أمر الله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: لا تمنعوا إماء الله، مساجد الله، وبيوتهن خير لهن. اهـ. الاستقامة.
وعلى كل حال: فإن الغيرة المحمودة تزيد بزيادة إيمان العبد وتقواه، وتنقص بنقص إيمانه، فمن آثار المعاصي أنها تنقص الغيرة وتضعفها.
قال ابن القيم: ومن عقوبات الذنوب: أنها تطفئ من القلب نار الغيرة التي هي لحياته وصلاحه، كالحرارة الغريزية لحياة جميع البدن، فالغيرة حرارته وناره التي تخرج ما فيه من الخبث، والصفات المذمومة، كما يخرج الكير خبث الذهب والفضة والحديد، وأشرف الناس وأعلاهم همة أشدهم غيرة على نفسه وخاصته وعموم الناس، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم أغير الخلق على الأمة، والله سبحانه أشد غيرة منه، كما ثبت في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني».
فالغيور قد وافق ربه سبحانه في صفة من صفاته، ومن وافق الله في صفة من صفاته قادته تلك الصفة إليه بزمامه، وأدخلته على ربه، وأدنته منه، وقربته من رحمته، وصيرته محبوبا، فإنه سبحانه رحيم يحب الرحماء، كريم يحب الكرماء، عليم يحب العلماء، قوي يحب المؤمن القوي، وهو أحب إليه من المؤمن الضعيف، حتى يحب أهل الحياء، جميل يحب أهل الجمال، وتر يحب أهل الوتر.
والمقصود أنه كلما اشتدت ملابسته للذنوب، أخرجت من قلبه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف في القلب جدا حتى لا يستقبح بعد ذلك القبيح لا من نفسه ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحد فقد دخل في باب الهلاك. وكثير من هؤلاء لا يقتصر على عدم الاستقباح، بل يحسن الفواحش والظلم لغيره، ويزينه له، ويدعوه إليه، ويحثه عليه، ويسعى له في تحصيله، ولهذا كان الديوث أخبث خلق الله، والجنة حرام عليه، وكذلك محلل الظلم والبغي لغيره ومزينه له، فانظر ما الذي حملت عليه قلة الغيرة.
وهذا يدلك على أن أصل الدين الغيرة، ومن لا غيرة له لا دين له. اهـ. باختصار من الجواب الكافي.
والغيرة كسائر الأخلاق فيها جانب طبعي جبلي، وفيها جانب مكتسب بالاعتياد والمعالجة.
قال الغزالي: وأما ثمرة الحمية الضعيفة، فقلة الأنفة مما يؤنف منه من التعرض للحرم والزوجة ... ففقد الغضب مذموم، وإنما المحمود غضب ينتظر إشارة العقل والدين، فينبعث حيث تجب الحمية، وينطفئ حيث يحسن الحلم. وحفظه على حد الاعتدال هو الاستقامة التي كلف الله بها عباده، وهو الوسط الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: خير الأمور أوساطها. فمن مال غضبه إلى الفتور، حتى أحس من نفسه بضعف الغيرة وخسة النفس في احتمال الذل والضيم في غير محله، فينبغي أن يعالج نفسه حتى يقوى غضبه. اهـ. باختصار من إحياء علوم الدين.
وقال أيضا: والناس في الغضب يختلفون، فبعضهم كالحلفاء، سريع التوقد، سريع الخمود، وبعضهم كالقطا بطيء الخمود، وبعضهم بطيء التوقد سريع الخمود، وهو الأحمد، ما لم ينته إلى فتور الحمية والغيرة.
وأسباب الغضب: أما من جهة المزاج، فالحرارة واليبوسة، يدل عليهما تعريف الغضب، فإن الغضب معناه غليان دم القلب ...
وأما ما وراء المزاج، فالاعتياد، فإن من يعاشر جماعة يباهون بالغضب والطباع السبعية انطبع ذلك فيه. وإن من خالط أهل الهدوء والوقار، أثرت العادة أيضاً فيه. اهـ. باختصار من ميزان العمل.
فمما يعين على تقوية الغيرة المحمودة مصاحبة أهلها، ودعاء الله سبحانه بها، وقراءة سير الصالحين المتصفين بها، والبعد عما يضعفها -من الذنوب والمعاصي-.
والله أعلم.