الحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله، وصحبه، ومن والاه، أما بعد:
فشكر الله لك مشاركتك في تحفيظ القرآن، ثم الحرص على السؤال، وتحري الصواب، ثم الاهتمام بتعليم هؤلاء الفتيات ما ينفعهم، ويناسب أعمارهم.
وأما ما سألت عنه بتفاصيله، فهو موضوع كبير، ومتشعب، والحقيقة أن توفيته حقه في البيان، والإتيان على جميع متعلقاته: لا يناسب عملنا في مجال الفتوى؛ ولذلك سنكتفي بالجواب المجمل على أصول ما ورد في السؤال من استفسارات، فنقول:
أولًا: قد يسع المربي، ومعلم الصغار أن يسكت عن الجواب، أو يتحول بالكلام إلى موضوع آخر؛ مراعاة لحال الصغير، ومداركه، ولكن لا يسعه أن يتكلم بالباطل، أو يجيب بما يخالف الحق.
ثانيًا: في بعض الأحيان يتعسر الجواب عن سؤال؛ لغياب المقدمات المطلوبة لفهمه، ومن ثم؛ فبيان هذه المقدمات هو الأصل، ولا سيما إن كان بيانها يترتب عليه معرفة الجواب من غير نص عليه، كما هو الحال في أصل سؤال الأخت السائلة، فإن الكلام عن قضية الإيمان بالله وتوحيده، وأن ذلك هو أصل الأصول، وأهم الحقوق، وأوجب الفرائض، التي يبنى عليها علاقة العبد بربه، فلا تصح إلا بها، ولا يقبل عمل إلا من صاحبها، ولا يدخل الجنة إلا من أتى بها، فإذا ترسخ ذلك - ولو مع الوقت -، فلا نحتاج للسؤال عن مصير من فقدها، أو خالفها، وإنما نحتاج فقط لإثبات فقدها، أو مخالفتها.
ثالثًا: الأطفال يحتاجون إلى شيء من التفصيل في معرفة الحق، ولكنهم لا يحتاجون إلى هذا التفصيل في معرفة الباطل؛ فإن عرفوا الإسلام والإيمان تفصيلًا بما يناسب حالهم، فيكفي تلقينهم أن ما يخالف ذلك باطل، لا يحبه الله، ولا يرضاه.
رابعًا: مدراك الأطفال لمسائل الاعتقاد الصحيحة، أوسع وأكبر مما نظن في كثير من الأحيان؛ لأن هذه المسائل توافق الفطرة، التي فطر الله الناس عليها، فتلقى قبولًا يسيرًا، وفهمًا، وإدراكًا واعيًا، بخلاف العقائد الباطلة، فتفصيلها مُنَفِّر، ويتعسر فهمه، وإدراكه، ومثال ذلك: قضية التوحيد والشرك، وربطها بقضية الثواب والعقاب، والجنة والنار.
خامسًا: الأطفال في سن العاشرة، لا يميزون ويدركون فحسب، بل شأنهم في هذه السن أعظم من هذا بكثير، بل إن أهل العلم يشيرون إلى سن الخامسة، أو السادسة للبدء في تلقين العلم، قال ابن الجوزي في كتاب الحث على حفظ العلم: متى اعتدل المزاج، وتكامل العقل، أوجب ذلك يقظة الصبي، فمن رزق ولدًا، فليجتهد معه، والتوفيق من وراء ذلك، فينبغي له أن يعوده النظافة، والطهارة من الصغر، ويثقفه بالآداب، فإذا بلغ خمس سنين، أخذه بحفظ العلم. اهـ. وقال في تنبيه النائم الغمر: فإذا عبر الصبي خمس سنين، بان فهمه، ونشاطه في الخير، وحسن اختياره. اهـ.
وقال في صيد الخاطر: ينبغي أن يحمل الصبي من حين يبلغ خمس سنين على التشاغل بالقرآن، والفقه، وسماع الحديث. اهـ.
سادسًا: بيان حكم غير المسلمين عمومًا – نصارى، أو غيرهم – للأطفال، ليس فيه إشكال من حيث هو، ولكنه يحتاج إلى تلقين المقدمات، والأصول التي تبنى عليها بأسلوب مناسب، كما أشرنا سابقا.
وبصفة عامة: فإن الطفل إذا عقل، وحسن فهمه، يلقن ما يحتاج إليه من أحكام، ولا سيما ما يفرضه عليه واقعه الذي يعيش فيه، فالعبرة بعقل الصبي، وإدراكه، قال ابن العربي في أحكام القرآن: للقوم في التعلم سيرة بديعة؛ وهي أن الصغير منهم إذا عقل، بعثوه إلى المكتب. اهـ.
سابعًا: لا ريب في أن العلم تتفاوت مسائله في الأهمية، فمنه المهم، ومنه الأهم، وينبغي أن يبدأ مع الطفل بالأهم فالمهم، والأهم هو ما يتعلق بقضايا الإيمان، قال أبو الوليد الباجي في النصيحة الولدية التي أسداها لولديه: أول ما أوصيكما به، ما أوصى به إبراهيم بنيه ويعقوب: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}، وأنهاكما عما نهى عنه لقمان ابنه وهو يعظه: {يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}، وأؤكد عليكما في ذلك وصيتي، وأكررها؛ حرصًا على تعلقكما، وتمسككما بهذا الدِّين، الذي تفضل الله تعالى علينا به، فلا يستزلكما عنه شيء من أمور الدنيا، وابذلا دونه أرواحكما، فكيف بدنياكما؟! فإنه لا ينفع خير بعده الخلود في النار، ولا يضر ضير بعده الخلود في الجنة، {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، فإن متما على هذا الدين، الذي اصطفاه الله، واختاره، وحرم ما سواه، فأرجو أن نلتقي حيث لا نخاف فرقة، ولا نتوقع إزالة، ويعلم الله تعالى شوقي إلى ذلك، وحرصي عليه، كما يعلم إشفاقي من أن تزل بأحدكما قدم، أو تعدل به فتنة، فيحل عليه من سخط الله تعالى ما يحله دار البوار، ويوجب له الخلود في النار، فلا يلتقي مع المؤمنين من سلفه، ولا ينفعه الصالحون من آبائه، يوم لا يغني {وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}. اهـ.
وقال ابن الجوزي في لفتة الكبد في نصيحة الولد: أول ما ينبغي النظر فيه: معرفة الله تعالى بالدليل، ومعلوم أن من رأى السماء مرفوعة، والأرض موضوعة، وشاهد الأبنية المحكمة، خصوصًا في جسد نفسه، علم أنه لا بدّ للصنعة من صانع، وللمبني من بانٍ. ثم يتأمل دليل صدق الرسول صلى الله عليه وسلم إليه، وأكبر الدلائل القرآن الذي أعجز الخلق أن يأتوا بسورة من مثله، فإذا ثبت عنده وجود الخالق جل وعلا، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وجب تسليم عنانه إلى الشرع، فمتى لم يفعل، دلّ على خلل في اعتقاده ... ثم يجب عليه أن يعرف ما يجب عليه من الوضوء، والصلاة، والزكاة -إن كان له مال-، والحج، وغير ذلك من الواجبات، فإذا عرف قدر الواجب، قام به.
فينبغي لذي الهمة أن يترقّى إلى الفضائل، فيتشاغل بحفظ القرآن، وتفسيره، وبحديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وبمعرفة سير أصحابه، والعلماء بعدهم ... اهـ.
وأخيرًا: نلفت نظر الأخت السائلة إلى أهمية الرجوع إلى الوسائل، والكتب المعاصرة الموثوقة، التي وضعت خصيصًا للأطفال في بيان أركان الإسلام والإيمان، وهي كثيرة.
والله تعالى أعلم.