السؤال
لدي إشكال في حديث الجساسة في صحيح مسلم وهو: أن الحديث -وإن كان صحيح السند- إلا أنه يعارض غيره من الأحاديث الصحيحة التي دلت على أنه قصير جعد قطط، كما جاء في الرواية أنه يقول إنه سيطوف الأرض كلها إلا مكة وطيبة، وأن الملائكة يصدونه عنها بسيوفهم المصلتة، وفي هذا من النكارة أولا: علم الدجال بالغيب، وثانيا: إذا كان يعلم يقينا أنه لن يدخل مكة والمدينة، فكيف يقول إنه سيريد دخولها، ثم تصده الملائكة؟!!.
آمل حل هذه الإشكالات، وجزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فحديث الجساسة قد صححه الأئمة المتقدمون، كالإمام البخاري وابن عبد البر، وأخرجه مسلم في صحيحه. وقد ضعفه بعض المعاصرين لأسباب، منها: مخالفته لما ورد في صفة الدجال في الصحيحين أنه رجلٌ قصير، قَطط، جعد الرأس، أشبه ما يكون بعبد العزى بن قطن. والجساسة ليس على هذا السياق. وقد سبق لنا بيان ذلك في الفتوى: 204022.
ووصف الدجال في حديث الجساسة – كما في صحيح مسلم - : أعظم إنسان رأيناه قط خلقا، وأشده وثاقا. وفي رواية أبي داود: رجلٌ يجرُّ شعرَهُ مسلسلٌ في الأغلالِ، ينزُو فيما بين السماء والأرضِ. قال الشيخ شعَيب الأرنؤوط في تحقيق سنن أبي داود: ضعيف بهذه السياقة. اهـ. وذكر من أسباب ذلك: المخالفة السابقة في متنه.
وإذا سلمنا بأن هذه المخالفات في وصف الدجال، لا يمكن الجمع بينها، فحينئذ تُقدَّم الرواية الأصح، ويُحكم على الأخرى بالشذوذ أو النكارة. ويبقى أصل الحديث صحيحا. فكيف وقد جمع شراح الحديث بين هذه العبارات التي ظاهرها التعارض، كما قال الطيبي في شرح المشكاة: قوله: ((قصير)) وجه الجمع بينه وبين قوله في الحديث السابق: ((أعظم إنسان رأيناه)) أنه لا يبعد أن يكون قصيرا بطينا عظيم الخلقة، ويحتمل أن الله تعالى يغيره عند الخروج. اهـ.
وقال القرطبي في المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم: قوله: "ما بين خلق آدم إلى قيام الساعة خلق أكبر من الدجال" ظاهر هذا كبر الخلقة والجسم .. وكذا قال تميم رضي الله عنه في خبر الجساسة: "فإذا أعظم إنسان رأيناه" .. غير أنه قد تقدَّم من حديث أبي داود في وصف الدجال: "إنه قصير أفحج" وإنما يكون قصيرا بالنسبة إلى نوع الإنسان، فمقتضى ذلك: أن يكون فيهم من هو أطول منه، ولهذا قيل: إن وصفه بالأكبرية إنما يعني بذلك عظم فتنته وكبر محنته؛ إذ ليس بين يدي الساعة أعظم ولا أكبر منها، ويحتمل أن يريد به: أنه ينتفخ أحيانا حتى يكون في عين الناظر إليه أكبر من كل نوع الإنسان، كما تقدَّم في شأن ابن صياد أنه انتفخ عن غضبه حتى ملأ الطريق. اهـ.
وأما دلالة هذا الحديث على علم الدجال بالغيب، فإن الغيب الذي يطلع الله عليه بعض خلقه، لا يبقى في حقهم غيبا. فالغيب المطلق لا يعلمه إلا الله، ولا يعلم أحد بذاته شيئا من الغيب، ولكن يمكن أن يطَّلع على شيء منه بإعلام الله تعالى له، كما قال سبحانه: وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة: 255] قال ابن كثير في تفسيره: أي: لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل وأطلعه عليه. اهـ.
وأما إرادة الدجال لدخول المدينة رغم علمه بأنه لن يدخلها، فهذا من جملة ما أعلمه الله للدجال، فأخبر به، وسيفعله، لتصدق نبوءة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقد ورد مقتضى ذلك في جملة من الأحاديث، منها ما في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ليس من بلد إلا سيطؤه الدجال إلا مكة والمدينة، وليس نقب من أنقابها إلا عليه الملائكة صافين تحرسها، فينزل بالسبخة فترجف المدينة ثلاث رجفات يخرج إليه منها كل كافر ومنافق.
والله أعلم.