الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلا إثم على السائل فيما ذكره، بل هو مشكور ومأجور -إن شاء الله- على رعايته واهتمامه بجاره المُسِن.
وأما مسألة الحقنة، فقد قام السائل بما له فعله ولم يقصر، فقد سأل جاره في حال وعيه: هل أخذت الجرعة أم لا؟ فأجاب بالنفي، فأحسن إليه السائل وأعطاه إياها بناء على خبره وإذنه، والإذن ينافي الضمان، فمن فعل ما أذن له فيه لم يضمن.
قال ابن الحاجب في «جامع الأمهات»: من فعل فعلا يجوز له من طبيب وشبهه على وجه الصواب فتولد منه هلاك أو تلف مال؛ فلا ضمان عليه. اهـ.
وقال ابن جزي في «القوانين الفقهية»: كل من فعل ما يجوز له فعله فتولد منه تلف؛ لم يضمن. اهـ.
والمقصود أن المرء إذا لم يَتَعدَّ، لم يضمن فعله المأذون له فيه -فضلا عما يجب عليه، أو يستحب منه- ولذلك لا يضمن الطبيب الحاذق الذي يعطي الصنعة حقها، وإن أتلف عضوا أو نفسا.
قال ابن القيم في «زاد المعاد»: طبيب حاذق أعطى الصنعة حقها ولم تجن يده، فتولد من فعله المأذون من جهة الشارع ومن جهة من يطبه تلف العضو أو النفس، أو ذهاب صفة، فهذا لا ضمان عليه اتفاقا، فإنها سراية مأذون فيه. وهذا كما إذا ختن الصبي في وقت وسن قابل للختان، وأعطى الصنعة حقها، فتلف العضو أو الصبي؛ لم يضمن. وكذلك إذا بطَّ من عاقل أو غيره ما ينبغي بَطُّه، في وقته، على الوجه الذي ينبغي، فتلف به؛ لم يضمن.
وهكذا سراية كل مأذون فيه لم يتعد الفاعل في سببها، كسراية الحد بالاتفاق ...
وقاعدة الباب إجماعا ونزاعا: أن سراية الجناية مضمونة بالاتفاق، وسراية الواجب مهدرة بالاتفاق، وما بينهما ففيه النِّزاع. اهـ.
وقال الأبهري في «شرح المختصر الكبير»: إذا سقت المرأة ابنها دواءً من قُرْحٍ يلحقه فمات، أو طبيبٌ سقى رجلاً دواءً فمات، فلا كفّارة عليهما واجبة ... لأنَّهما فعلا ما لهما فعله، ولا كفّارة عليهما، كالحاكم إذا حدَّ إنساناً فمات في حدِّه، فلا كفّارة عليه، وكذلك المُقتَصُّ منه إذا مات من القِصَاص، فلا شيء على الَّذِي اقتصَّ؛ لأنَّهُ فعل ما له فعله. اهـ.
ومما يوضح المراد بيان ابن القيم لوجه قضاء عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في بصير كان يقود أعمى، فوقعا في بئر، فخرَّ البصير، ووقع الأعمى فوقه فقتله، فقضى عمر بعقل البصير على الأعمى. قال ابن القيم في «إعلام الموقعين» بعد أن ذكر الخلاف في المسألة: القياس حكم عمر؛ لوجوه:
أحدها: أن قوده له مأذون فيه من جهة الأعمى، وما تولد من مأذون فيه لم يضمن كنظائره.
الثاني: قد يكون قوده له مستحبا أو واجبا، ومن فعل ما وجب عليه أو ندب إليه لم يلزمه ضمان ما تولد منه.
الثالث: أنه قد اجتمع على ذلك الإذنان إذن الشارع وإذن الأعمى، فهو محسن بامتثال أمر الشارع محسن إلى الأعمى بقوده له، وما على المحسنين من سبيل ... اهـ.
وكذلك نقول هنا: إن السائل قد فعل ما أذن له وأحسن إلى جاره، وما على المحسنين من سبيل.
وهذا كله على افتراض حصول العلم بكون موت هذا الرجل كان بسبب الحقنة التي أعطاه إياها السائل، والحال ليس كذلك؛ فهذا مجرد ظن، فلا يتعلق به حكم، والأصل براءة الذمة.
قال ابن حزم في المحلى: إن شكت أمات من فعلها أم من غير فعلها؟ فلا دية في ذلك، ولا كفارة؛ لأننا على يقين من براءتها من دمه، ثم على شك أمات من فعلها أم لا ... اهـ.
وقال العز بن عبد السلام في قواعد الأحكام: الأصل براءة ذمته، فإن الله خلق عباده كلهم أبرياء الذمم والأجساد من حقوقه وحقوق العباد، إلى أن تتحقق أسباب وجوبها. اهـ.
وقال الجويني في غياث الأمم: كل ما أشكل وجوبه، فالأصل براءة الذمة فيه، كما سبق في حقوق الأشخاص المعينين، فهذا منتهى المقصود فيما يتعلق بالأملاك من المعاملات، والحقوق الخاصة والعامة. اهـ.
والله أعلم.