الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فكون معظم هذه القنوات يبث محتوى مخالفًا للدين، أشد وأولى بالمراعاة من النظر والبحث في حقوق أصحاب القنوات. وعلى أية حال، فالقنوات التي تبث المحرمات، أو يغلب على محتواها ذلك، لا تجوز المشاركة فيها، لا بسعر الجملة، ولا بالسعر المعتاد، كما لا يجوز بثها، ولا إعادة توزيعها، ولا الإعانة على ذلك، ولو مجانا؛ لما في ذلك من الإعانة على الإثم والعدوان، وقد قال -تعالى-: وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ {المائدة: 2}.
وقال ابن بطال «شرح صحيح البخاري»: المعونة على معاصي الله، وما يكرهه الله، للمعين عليها من الوزر، والإثم مثل ما لعاملها؛ ولذلك نهى الرسول عن بيع السيوف في الفتنة، ولعن عاصر الخمر، ومعتصرها، وحاملها، والمحمولة إليه، وكذلك سائر أعمال الفجور. اهـ.
وقال الشوكاني في البحث المسفر: الظاهر من الأدلة تحريم بيع كل شيء انحصرت نفعته في محرم لا يقصد به إلا ذلك المحرم، أو لم ينحصر، ولكنه كان الغالب الانتفاع به في محرم، أو لم يكن الغالب ذلك، ولكنه وقع البيع لقصد الانتفاع به في أمر محرم، فما كان على أحد هذه الثلاث الصور كان بيعه محرما ... ومن أدلة الصورة الثانية ما أخرجه الترمذي من حديث أبي أمامة أن رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: "لا تبيعوا القينات، والمغنيات، ولا تشتروهن، ولا تعلموهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام" ومن المعلوم أن منفعة القينات لم تنحصر في الحرام، ولكن لما كان الغالب الانتفاع بهن في الحرام، جعل الشارع حكمهن في تحريم البيع حكم ما لا ينتفع به في غير الحرام؛ تنزيلا للأكثر منزلة الكل. اهـ.
والقنوات القائمة على بث المحرمات لا تستحق عِوَضا على ما تبثه، ولا يجب ضمانه شرعا إذا غُصِب.
قال ابن عقيل في «كتاب الفنون»: لا شك أن من مذهب أحمد تحريم عوض كل محرم ... واستدل في تحريم عوض الحرام بقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لعن الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم، فباعوها، وأكلوا أثمانها، إن الله إذا حرك شيئا حرم ثمنه. اهـ.
وقال القرافي في الذخيرة: المنافع المحرمة لا تقابل بالأعواض. اهـ.
وقال الإمام الشافعي في الأم: لا يكون القطع، والغرم، إلا فيما يحلّ ثمنه. اهـ.
وقال ابن قدامة في المغني: ما حرم الانتفاع به، لم يجب ضمانه. اهـ.
وما اكتسبه السائل من توزيع مثل هذه القنوات، فإنه لا يباح له، بل ينفَق في المصالح العامة، أو يدفع للفقراء، والمساكين.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى: من باع خمرًا، لم يملك ثمنه. فإذا كان المشتري قد أخذ الخمر، فشربها، لم يجمع له بين العوض، والمعوض؛ بل يؤخذ هذا المال، فيصرف في مصالح المسلمين، كما قيل في مهر البغي، وحلوان الكاهن، وأمثال ذلك مما هو عوض عن عين، أو منفعة محرمة، إذا كان العاصي قد استوفى العوض. اهـ.
ويجوز للسائل، إن كان فقيرا محتاجا إلى هذا المال، أن يأخذ منه بقدر حاجته، أو يجعل منه رأس مال لتجارة مباحة.
قال الغزالي في «إحياء علوم الدين»: له أن يتصدق على نفسه، وعياله - يعني بالمال الحرام الذي بيده - إذا كان فقيرا، أما عياله، وأهله فلا يخفى؛ لأن الفقر لا ينتفي عنهم بكونهم من عياله، وأهله، بل هم أولى من يتصدق عليهم، وأما هو فله أن يأخذ منه قدر حاجته، لأنه أيضا فقير، ولو تصدق به على فقير لجاز، وكذا إذا كان هو الفقير. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في الفتاوى الكبرى: وللفقير أكله -يعني المال الحرام المأخوذ برضا الدافع-، ولولي الأمر أن يعطيه أعوانه، وإن كان هو فقير أخذ كفايته. اهـ.
وجاء في مجموع فتاويه: إن تابت هذه البغي، وهذا الخمار، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال قدر حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر، أو يعمل صنعة، كالنسج، والغزل، أعطي ما يكون له رأس مال. اهـ.
وأما القنوات القائمة على بث المباحات، فحقوقها محفوظة شرعا، ويجب ضمانها بالتعدي عليها، وراجع في ذلك الفتوى: 6080.
فإن ثبت في ذمة السائل حق لمثل هذه القنوات، وجب بذله إليها، إذا أمكن ذلك، وإلا تصدق به عن أصحابها.
وراجع في ذلك الفتويين: 382552، 236332.
والله أعلم.