الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط

حرمة إنشاء مصانع في المناطق السكنية تضر بسُكَّانها

السؤال

أسكن في قرية، وهناك من فتح مشروع مفحمة، وذلك لصنع الفحم الذي يستخدم في شي اللحوم، وفي المطاعم، والمقاهي، والمشكلة أن دخانها يؤثر على سكان القرية، حيث الغالبية العظمى من القرية -إن لم يكن كلها- من الكبار، والصغار، والأطفال الرضع، يعانون من أمراض الصدر بسببها، وأصبح الناس يتناوبون على جلسات التنفس الصناعي، وفي بيوتنا لا نستطيع ليلا أن نفتح نافذة، لأن الرائحة لا تطاق، ويمتلئ المنزل بهذه الرائحة. فما حكم هذه المفاحم؟ وهل نحن -سكان القرية- سنحاسب على سلبيتنا هذه؟

الإجابــة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فلا يجوز إنشاء المصانع التي يتضرر الناس بسببها في المناطق السكنية؛ فقد حرمت الشريعة أذيَّة المؤمنين، والإضرار بهم، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتانًا وَإِثْمًا مُبِينًا {الأحزاب: 57}.

وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: لا ضرر ولا ضرار. أخرجه الإمام أحمد، وغيره.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ، أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ. رواه البخاري.

ويتأكد التحذير من أذية المؤمنين، والإضرار بهم إذا كانوا جيرانًا للمؤذي؛ فإنَّ حقوق الجار على جاره من أعظم الحقوق، وآكدها، وأذيته من عظائم الذنوب، وكبائرها، وتحقيق كمال الإيمان لا يكون إلا بتجنب أذية الجار؛ لقول النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ؛ فَلاَ يُؤْذِ جَارَهُ. رواه البخاري.

وكف الأذى عن الجار سبب لتحقيق كمال الإيمان؛ لأن الإيمان منفي عمن يؤذي جاره، فعَنْ أَبِي شُرَيْحٍ، أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ، وَاللَّهِ لاَ يُؤْمِنُ قِيلَ: وَمَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لاَ يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائقَهُ. رواه البخاري. وفي رواية أحمد: قَالُوا: وَمَا بَوَائِقُهُ يَا نَبِيَّ اللهِ؟ قَالَ: شَرُّهُ.

ففي هذا الحديث ينفي النبي -صلى الله عليه وسلم- الإيمان عمَّن لا يأمن جاره بوائقه، ويقسم على ذلك، وهو أصدق الناس، وأعلمهم، ويكرر ذلك ثلاث مرات لشدته، وفظاعته؛ نصحًا للعباد، وتحذيرًا لهم من الوقوع في ذلك، وقد يُحرم العبد من دخول الجنة بسبب أذيته لجاره؛ كما في قول النبي -صلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ. رواه مسلم.

ولكثرة ما بين الجيران من الحقوق مع الغفلة عن أدائها، وكثرة ما يقع من أذية بعضهم بعضًا، فإنهم يختصمون عند الله تعالى، كما في حديث عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أَوَّلُ خَصْمَيْنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جَارَانِ. رواه أحمد.

وإذا بلغت أذية الجار مبلغًا يجعل جاره يفارق بيته لأجل ما يلقى من أذى، فالمؤذي على خطر من نزول العقوبة العاجلة به، التي قد تُهلكه، أو تُهلك ولده، أو تتلف ماله.

قَالَ ثَوْبَانُ -رضي الله عنه-: مَا مِنْ جَارٍ يَظْلِمُ جَارَهُ، وَيَقْهَرُهُ، حَتَّى يَحْمِلَهُ ذَلِكَ عَلَى أَنْ يَخْرُجَ مِنْ مَنْزِلِهِ، إِلَّا هَلَكَ. رواه البخاري في الأدب المفرد.

والفقهاء ذكروا كثيرًا من الأحكام المتعلقة بالجيران، وذكروا ما يُمنع الإنسان من فعله في مِلكه، أو في مشترك بينه وبين جاره؛ لئلا يؤذي جاره، وضابط ذلك: أنه ليس للإنسان أن يتصرف في مِلكه بما يؤذي جاره، وانظر الفتوى: 436726.

هذا؛ ومن حق سكان القرية أن يدفعوا هذا الضرر عنهم، وذلك بنصح أصحاب هذه المصانع، وتخويفهم بالله تعالى، وإن لم ينتهوا؛ فليرفعوا أمرهم إلى المسئولين.

وأما التعايش مع الظلم مع القدرة على دفعه؛ فإنه من العجز والتفريط، وقد روى الطبراني في معجمه الكبير عَنْ مُعَاوِيَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَا تُقَدَّسُ أُمَّةٌ لَا يُقْضَى فِيهَا بِالْحَقِّ، وَيَأْخُذُ الضَّعِيفُ حَقَّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ.

وروى الحاكم في مستدركه عن أَبِي سُفْيَانَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ أنَّ النبيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: إِنَّ اللَّهَ لَا يَتَرَحَّمُ عَلَى أُمَّةٍ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ مِنْهُمْ حَقَّهُ مِنَ الْقَوِيِّ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ.

قال الحافظ المناوي في فيض القدير شرح الجامع الصغير: ترك إزالة المنكر مع القدرة أبلغ في الذم، وأخرج. انتهى.

وقال الحافظ المناوي أيضًا في التيسير بشرح الجامع الصغير: أَفَادَ أَن ترك إِزَالَة الْمُنكر مَعَ الْقُدْرَة عَظِيم الْإِثْم. انتهى.

وقرر الفقهاء أفضلية العفو عن الظالم عند العجز عن استيفاء الحق منه، بما يفيد أن العفو غير راجح مطلقًا، وأن المطلوب السعي في أخذ الحق، بل قد يكون العفو مفضولاً، ومرجوحًا إذا ترتب عليه تمادي الظالم في ظلمه.

قال الإمام الخادمي الحنفي في كتابه بريقة محمودية: لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ أَفْضَلِيَّةُ الْعَفْوِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَخْذِ الْحَقِّ.. لَكِنْ قَدْ يَكُونُ الْعَدْلُ أَفْضَلَ مِنْ الْعَفْوِ بِعَارِضٍ مُوجِبٍ لِذَلِكَ، مِثْلِ كَوْنِ الْعَفْوِ سَبَبًا لِتَكْثِيرِ ظُلْمِهِ، لِتَوَهُّمِهِ أَنَّ عَدَمَ الِانْتِقَامِ مِنْهُ لِلْعَجْزِ، وَكَوْنُ الِانْتِصَارِ سَبَبًا لِتَقْلِيلِهِ، أَوْ هَدْمِهِ، إذَا كَانَ الْحَقُّ قِصَاصًا مَثَلاً، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْعَوَارِضِ، مِثْلِ كَوْنِهِ عِبْرَةً لِلْغَيْرِ. انتهى.

وانظر الفتويين: 278878 468280.

والله أعلم.

مواد ذات صلة

الفتاوى

الصوتيات

المكتبة

بحث عن فتوى

يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني