الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فقد بينا حقيقة التوكل على الله والثقة به في الفتوى رقم: 21491.
وذكر الإمام ابن رجب في كتابه القيم جامع العلوم والحكم عن إسحاق بن راهويه قوله: .. ومن كان ضعيفا وخشي على نفسه أن لا يصبر أو يتعرض للسؤال أو أن يقع في الشك والسخط لم يجز له ترك الأسباب حينئذ.. قال ابن رجب: فلا يرخص في ترك الأسباب بالكلية إلا لمن انقطع قلبه عن الاستشراف إلى المخلوقين بالكلية. كما في قصة إبراهيم عليه السلام وإن كان في صحة ذلك الجزء منها مقال، فهي من رواية كعب الأحبار وقد ذكرها العجلوني في كشف الخفاء ومزيل الألباس، والسيوطي في الدر المنثور، والبغوي في التفسير وغيرهم وقد احتج بها أحمد كما ذكر ابن رجب عنه فإنه سئل عن التوكل فقال: قطع الاستشراف باليأس من الخلق، فسئل عن الحجة، فقال قول إبراهيم عليه السلام لما عرض له جبريل وهو يرمي في النار، فقال له: ألك حاجة، فقال: إما إليك فلا.
وأما ما يهدى إليك ويأتيك من غير سؤال ولا إشراف نفس فخذه إذا كان حلالا، كما قال صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، ففي الصحيح عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيني العطاء فأقول أعطه من هو أفقر مني فقال: خذه. إذا جاءك من هذا المال شيء وأنت غير مشرف ولا سائل فخذه، ومالا فلا تتبعه نفسك. رواه البخاري.
وليس قبول العطية مثل سؤال الناس، فالمسألة لا تحل إلا لمن كان من أحد الثلاثة الذين تجوز لهم المسألة، كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم: إن المسألة لا تحل إلا لثلاثة: رجل تحمل بحمالة فحلت له المسألة حتى يؤديها ثم يمسك، ورجل أصابته حاجة حتى يشهد ثلاثة من ذوي الحجى من قومه أن قد أصابه فقر وحاجة فحلت له المسألة حتى يجد قواما من عيش، ورجل أصابته جائحة فاجتاحت ماله فحلت له المسألة حتى يصيب سدادا من عيش ثم يمسك، وما سوى ذلك من المسألة فهي سحت. رواه النسائي والدارقطني والبيهقي.
وأما قصة موسى فلم نقف عليها فيما اطلعنا عليه من كتب أهل العلم، وأغلب تلك القصص إنما هي من الإسرائيليات، ولم يثبت منها إلا القليل، وقد اختلف فيما ثبت هل هو شرع لنا أم لا، كما بينا في الفتوى رقم: 62554.
وأما معنى الآية فكما قال البغوي: (التهلكة) أي الهلاك، وقيل: التهلكة كل شيء يصير عاقبته إلى الهلاك أي لا تأخذوا في ذلك، وقيل: التهلكة ما يمكن الاحتراز عنه. وقد رجح الطبري العموم في سبب ذلك وأن كل ما يؤدي إلى الهلاك داخل فيها حسا أو معنى، فالحسي مثل ترك النفقة وإعداد العدة للعدو مثلا ، والمعنوي مثل ارتكاب الذنوب الموبقة وعدم التوبة منها.
ولا يدخل في التهلكة أنواع الأذى بسبب التمسك بالدين، فكل مسلم متمسك بدينه عرضة لأن يلحقه الأذى في ذلك السبيل، قال الله تعالى: ألم أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ.
ومن هنا فإحياؤك للسنن وإماتتك للبدع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وقد بين ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه إعلام الموقعين ضابط ذلك ومتى يجب ومتى يحرم ومتى يجوز، فقال: لتغيير المنكر مراتب أربع: أن يكون تغييره يؤدي إلى زواله ويخلفه معروف خير منه، فهذا واجب التغيير والإنكار، والمرتبة الثانية: أن يكون تغييره إلى زواله ولكن يخلفه منكر دونه فهذا واجب التغيير أيضاً. والمرتبة الثالثة: أن يؤدي تغييره إلى زواله ولكن يخلفه منكر مثله فهذه مرتبة اجتهاد يوازن فيها الداعية بين المصالح والمفاسد فما ترجح لديه عمل به. والمرتبة الرابعة: أن يؤدي تغييره إلى زواله ولكن يخلفه منكر أعظم منه فهذا يحرم تغييره... انتهى منه بتصرف.
وأما مسألة ردك عن أخيك الأذى وتحملك له فهو من الإيثار الممدوح شرعاً، قال الله تعالى: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ {الحشر:9}، قال الزركشي في المنثور: الإيثار مندوب إليه ممدوح فاعله وهو ضربان: أن يكون فيما للنفس فيه حظ فهو مطلوب كالمضطر يؤثر بطعامه غيره إذا كان ذلك الغير مسلما.... كذا جزم به الرافعي تبعا للبغوي والإمام والشيخ أبي محمد وغيرهم... قال الرافعي: يجب الدفع عن الغير عند الخوف على النفس قطعاً. وقال الإمام في باب حول الفحل لا خلاف في استحباب الإيثار وإن أدى إلى هلاك المؤثر وهو من شيم الصالحين... والضرب الثاني: الإيثار بالقرب وهو مكروه.
وقال ابن القيم في زاد المعاد: الإيثار كله محبوب حتى في القرب ومن ذلك إيثار عائشة لعمر بالدفن مع صاحبيه، ومن الإيثار بالنفس ما ثبت في الصحيح أن أبا طلحة ترس على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد.
إذاً فالإيثار بتحمل الأذى عن الغير فضيلة لمن قوى إيمانه وصبره وتوكله على الله، كما قال النووي في روضة الطالبين.
والله أعلم.