السؤال
في حال التكلم عن الباري عز و جل هل يجوز القول شخص الله أو الذات الإلهية؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فجواب هذا السؤال يقتضي الكلام في ثلاث مسائل:
الأولى: حكم إطلاق كلمة (شخص) على الله.
الثانية: حكم أن يقال شخص الله.
الثالثة: حكم إطلاق كلمة (الذات الإلهية) للتعبير بها عن الله تعالى.
أما المسألة الأولى: فقد ورد في إطلاق الشخص على الله، ما أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لا شخص أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش إلخ.... وفي حديث أبي رزين العقيلي وهو لقيط بن عامر- وفيه: كيف وهو شخص واحد ونحن ملء الأرض. رواه ابن أبي عاصم في كتاب السنة. وقد ترجم البخاري باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا شخص أغير من الله.
وقد اختلف أهل العلم في إطلاق اسم الشخص على الله، قال القاضي أبو يعلى: وأما لفظ الشخص فرأيت بعض أصحاب الحديث يذهب إلى جواز إطلاقه، ووجهه أن قوله: (لا شخص) نفي من إثبات، وذلك يقتضي الجنس، كقوله: لا رجل أكرم من زيد، يقتضي أن زيداً يقع عليه اسم رجل، كذلك قوله: لا شخص أغير من الله يقتضي أن يقع عليه اسم شخص.
قال: وقد ذكر أبو الحسن الدارقطني في كتب الرؤية ما يشهد لهذا القول، وذكر حديث لقيط بن عامر المتقدم، وقوله للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف ونحن ملء الأرض وهو شخص واحد. فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على قوله، وقد ذكر أحمد هذا الحديث في الجزء الأول من مسند الكوفيين، فقال: قال عبد الله -يعني ابن أحمد قال عبيد الله القواريري ليس حديث أشد على الجهمية من هذا الحديث، قوله: لا شخص أحب إليه المدحة من الله. قال القاضي: ويحتمل أن يمنع من إطلاق ذلك على الله، لأن لفظ الخبر ليس بصريح فيه، لأن معناه: لا أحد أغير من الله، لأنه قد روي ذلك في لفظ آخر، فاستعمل لفظ الشخص في موضع أحد، ويكون ذلك استثناء من غير جنسه ونوعه، كقوله تعالى: مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ. وليس الظن من نوع العلم. انتهى.
وبهذا يتبين أن إطلاق اسم الشخص على الله فيه نزاع بين أهل الحديث من أصحاب الإمام أحمد وغيره على قولين، وعليه فلا حرج على المسلم في الأخذ بأحد القولين.
وأما المسألة الثانية: فلا يجوز أن يقال (شخص الله) لأن هذا تركيب حادث مبتدع، ليس في القرآن أو السنة ولم يؤثر عن السلف الصالح، وقد قال صلى الله عليه وسلم: إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة. رواه أحمد. وإنما يستعمل هذا التركيب النصارى فيقولون في مواعظهم (التأمل في شخص الله) (الثقة في شخص الله) ونحو ذلك، ثم إن هذا التركيب قد يوهم التشبيه والتجسيم فإن الشخص في اللغة كما يقول صاحب لسان العرب: الشخص كل جسم له ارتفاع وظهور فيتعين المنع من هذا التركيب درءا لتلك المفاسد.
وأما المسألة الثالثة: فمن أهل العلم من أنكر أن يقال الذات الإلهية، لأن هذا أيضاً من التراكيب الحادثة، وقد نقل الإمام ابن القيم عن الإمام السهيلي قوله: أما الذات فقد استهوى أكثر الناس ولا سيما المتكلمين القول فيها أنها في معنى النفس والحقيقة. ويقولون ذات الباري هي نفسه ويعبرون بها عن وجوده وحقيقته ويحتجون في إطلاق ذلك بقوله في قصة إبراهيم ثلاث كذبات كلهن في ذات الله. رواه البخاري ومسلم، وقول خبيب: وذلك في ذات الإله. قال: وليست هذه اللفظة إذا استقريتها في اللغة والشريعة كما زعموا ولو كان كذلك لجاز أن يقال عند ذات الله واحذر ذات الله كما قال تعالى ويحذركم الله نفسه، وذلك غير مسموع ولا يقال إلا بحرف في الجارة وحرف في للوعاء وهو معنى مستحيل على نفس الباري تعالى إذا قلت جاهدت في الله تعالى وأحببتك في الله تعالى محال أن يكون هذا اللفظ حقيقة لما يدل عليه هذا الحرف من معنى الوعاء وإنما هو على حذف المضاف أي في مرضاة الله وطاعته فيكون الحرف على بابه كأنك قلت هذا محبوب في الأعمال التي فيها مرضاة الله وطاعته وأما أن تدع اللفظ على ظاهرة فمحال. ثم علق على ذلك الإمام ابن القيم بقوله: فتأمل ذلك فإنه من المباحث العزيزة الغريبة التي يثنى على مثلها الخناصر والله الموفق والمعين.
وقال شيخ الإسلام: الذات هي كلمة مولدة، ليست قديمة وقد وجدت في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة لكن بمعنى آخر مثل قول خبيب الذي في صحيح البخاري (ص342)، وذلك في ذات الإله وإن يشأ يبارك على أوصال شلو ممزع. وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات كلهن في ذات الله. وعن أبي ذر: كلنا أحمق في ذات الله. وفي قول بعضهم: أصبنا في ذات الله. والمعنى في جهة الله وناحيته؛ أي لأجل الله ولابتغاء وجهه، ليس المراد بذلك النفس، ونحوه في القرآن: فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ. وقوله: عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ. أي الخصلة والجهة التي هي صاحبة بينكم وعليم بالخواطر ونحوها التي هي صاحبة الصدور، فاسم (الذات) في كلام النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة والعربية المحضة: بهذا المعنى. ثم أطلقه المتكلمون وغيرهم على النفس.
وقال الشيخ محمد حسن الددو: لفظ ذات إنما جاء إطلاقه على مقابل الصفة في العصور المتأخرة، وإن كان بعض أئمتنا يطلقه لكنه إنما يقصد بذلك المجاراة وأصبحت كلمة دارجة في عرف الناس، والناس يقولون: خطأ مشهور خير من صواب مهجور، وهذه الخيرية نسبية، لأنها إذا كانت تقتضي إثباتاً أونفياً في مجال الاعتقاد فليست كذلك، لكن المقصود به الإفهام والمجاراة، فإذا كان الناس لا يعرفون مقابل الصفة إلا بالذات فإننا نقيس عليه هذه الكلمة، وإن كانت ليست في لغة العرب أصلاً، فليس في لغة العرب لفظ (ذات) تطلق على مقابل الصفة، وإنما هي من ألفاظ المتكلمين التي اندرجت بالعربية فأصبحت دارجة فيها، فهي من الكلام الدارج.
وعلى هذا فالأولى ترك استعمال هذا التركيب.
والله أعلم.
يمكنك البحث عن الفتوى من خلال البريد الإلكتروني