خلاصة الفتوى:
إن الله عز وجل إنما يختار من يختار لحكمة، وهو عندما اختص العرب برسالة الإسلام فلعلمه أن فيهم من الصفات ما يؤهلهم لحمل هذه الرسالة، ومما ذكر أهل العلم من حكمة هذا الاختيار أنهم اختصوا بما في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم من الكمال، وهذا التشريف يقابله مزيد تكليف.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فمما ينبغي أن يعلم أولاً أن الله عز وجل إنما يختار من يختار لحكمة، قال سبحانه: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ {القصص:68}، وهو عندما اختص العرب برسالة الإسلام فلعلمه أن فيهم من الصفات ما يؤهلهم لحمل هذه الرسالة، قال سبحانه: اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ {الأنعام:124}، وقد يدرك الناس حقيقة حكمة هذا الاختيار وقد لا يدركون.
ومما قال أهل العلم بهذا الخصوص ما ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (اقتضاء الصراط المستقيم)، من قوله: وسبب هذا الفضل والله أعلم ما اختصوا به في عقولهم وألسنتهم وأخلاقهم وأعمالهم وذلك أن الفضل إما بالعلم النافع وإما بالعمل الصالح. والعلم له مبدأ وهو قوة العقل الذي هو الحفظ والفهم، وتمام وهو قوة المنطق الذي هو البيان والعبارة، والعرب هم أفهم من غيرهم وأحفظ وأقدر على البيان والعبارة ولسانهم أتم الألسنة بياناً وتمييزاً للمعاني جمعاً وفرقاً يجمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل إذا شاء المتكلم الجمع جمع ثم يميز بين كل شيئين مشتبهين بلفظ آخر مميز مختصر كما نجده في لغتهم من جنس الحيوان فإنهم مثل يعبرون عن القدر المشترك بين الحيوان بعبارات جامعة ثم يميزون بين أنواعه في أسماء كل أمر من أموره من الأصوات والأولاد والمساكن والأظفار إلى غير ذلك من خصائص اللسان العربي التي لا يستراب فيها.
وأما العمل فإن مبناه على الأخلاق وهي الغرائز المخلوقة في النفس وغرائزهم أطوع للخير من غيرهم فهم أقرب للسخاء والحلم والشجاعة والوفاء وغير ذلك من الأخلاق المحمودة، لكن كانوا قبل الإسلام طبيعة قابلة للخير معطلة عن فعله ليس عندهم علم منزل من السماء، ولا شريعة موروثة عن نبي، ولاهم أيضاً مشتغلون ببعض العلوم العقلية المحضة كالطب والحساب ونحوهما، إنما علمهم ما سمحت به قرائحهم من الشعر والخطب وما حفظوه من أنسابهم وأيامهم، وما احتاجوا إليه في دنياهم من الأنواء والنجوم أو من الحروب، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى الذي ما جعل الله في الأرض ولا يجعل منه أعظم قدراً وتلقوه عنه بعد مجاهدته الشديدة لهم ومعالجتهم على نقلهم عن تلك العادات الجاهلية والظلمات الكفرية التي كانت قد أحالت قلوبهم عن فطرتهم، فلما تلقوا عنه ذلك الهدى العظيم زالت تلك الريون عن قلوبهم، واستنارت بهدى الله الذي أنزل على عبده ورسوله، فأخذوا هذا الهدى العظيم بتلك الفطرة الجيدة فاجتمع لهم الكمال بالقوة المخلوقة فيهم، والكمال الذي أنزل الله إليهم بمنزلة أرض جيدة في نفسها.... إلخ. انتهى. ومع أن في هذا تشريفاً للعرب إلا أن فيه مزيد تكليف لهم.
والله أعلم.