الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
يختلف حكم البدعة وحكم فاعلها بحسب اختلاف نوع البدعة حقيقية أو إضافية، وبحسب ما وقع فيه الابتداع، في الأصول أو الفروع، وبحسب حال المبتدع من العلم أو الجهل، والدعوة إليها أو عدم الدعوة، والإصرار عليها أو عدمه، والتستر بها أو إظهارها وغير ذلك...
قال الشيخ صالح الفوازن في شرح كتاب التوحيد: كل بدعة في الدين فهي محرمة وضلالة، لقوله صلى الله عليه وسلم: وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة. وقوله صلى الله عليه وسلم: من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد. وفي رواية: من عمل عملاً ليس من أمرنا فهو رد... إلى أن قال: ومعنى ذلك أن البدع في العبادات والاعتقادات محرمة، ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة، فمنها ما هو كفر صراح، كالطواف بالقبور تقرباً إلى أصحابها، وتقديم الذبائح والنذور لها، ودعاء أصحابها والاستغاثة بهم، وكأقوال غلاة الجهمية والمعتزلة -ومنها ما هو فسق اعتقادي كبدعة الخوارج والقدرية والمرجئة في أقوالهم واعتقاداتهم المخالفة للأدلة الشرعية، ومنها ما هو معصية كبدعة التبتل والصيام قائماً في الشمس، والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع. انتهى.
ومن العلماء من يذكر في أقسام البدع ما هو مكروه فقط ويمثلون لذلك بزخرفة المساجد وتزويق المصاحف، ومنهم من يذكر فيها ما هو مباح مثل التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والملابس والمساكن، ولبس الطيالسة وتوسيع الأكمام، من غير سرفٍ ولا اختيالٍ.
والابتداع في العادات التي ليس لها تعلق بالعبادات جائز، لأنه لو كانت المؤاخذة في الابتداع في العادات لوجب أن تعدّ كل العادات التي حدثت بعد الصدر الأول -من المآكل والمشارب والملابس والمسائل النازلة- بدعاً مكروهاتٍ وهذا باطل، لأنه لم يقل أحد بأن تلك العادات التي برزت بعد الصدر الأول مخالفة لهم، ولأن العادات من الأشياء التي تدور مع الزمان والمكان، هذا عن حكم البدع.. وأما عن حكم أصحابها فتبع لذلك.
وجاء في مختصر كتاب الاعتصام للشاطبي: فصل: (إثم المبتدعين ليس على رتبة واحدة): إذا ثبت أن المبتدع آثم فليس الإثم الواقع عليه على رتبة واحدة، بل هو على مراتب مختلفة، من جهة كون صاحبها مستتراً بها أو معلناً، ومن جهة الدعوة إليها وعدمها، ومن جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية، ومن جهة كونها بينة أو مشكلة، ومن جهة كونها كفراً أو غير كفر، ومن جهة الإصرار عليها أو عدمه -إلى غير ذلك من الوجوه التي يقطع معها بالتفاوت في عظم الإثم وعدمه أو يغلب على الظن.
1- أما الاختلاف من جهة الإسرار والإعلان، فظاهر أن المسر بها ضرره مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره، فعلى أي صورة فرضت البدعة من كونها كبيرة أو صغيرة أو مكروهة، هي باقية على أصل حكمها، فإذا أعلن بها -وإن لم يدْعُ إليها- فإعلانه بها ذريعة إلى الاقتداء به.
2- وأما الاختلاف من جهة الدعوة إليها وعدمها فظاهر أيضاً، لأن غير الداعي وإن كان عرضه بالاقتداء فقد لا يقتدي به، ويختلف الناس في توفر دواعيهم على الاقتداء به، إذ قد يكون خامل الذكر، وقد يكون مشتهراً ولا يقتدى به، لشهرة من هو أعظم من الناس منزلة منه.
وأما الداعي إذا دعا إليها فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر، ولا سيما المبتدع اللسن الفصيح الآخذ بمجامع القلوب، إذا أخذ في الترغيب والترهيب، وأدلى بشبهته التي تداخل القلب بزخرفها.
3- وأما الاختلاف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية، فإن الحقيقية أعظم وزراً، لأنها التي باشرها المنتهي بغير واسطة، ولأنها مخالفة محضة وخروج عن السنة ظاهراً.
4- وأما الاختلاف من جهة كونها ظاهرة المأخذ أو مشكلة، فلأن الظاهر عند الإقدام عليها محض مخالفة، فإن كانت مشكلة فليست بمحض مخالفة، لإمكان أن لا تكون بدعة، والإقدام على المحتمل، أخفض رتبة من الإقدام على الظاهر.
5- وأما الاختلاف بحسب الإصرار عليها أو عدمه فلأن الذنب قد يكون صغيراً فيعظم بالإصرار عليه، كذلك البدعة تكون صغيرة فتعظم بالإصرار عليها، فإذا كانت فلتة فهي أهون منها إذا داوم عليها، ويلحق بهذا المعنى إذا تهاون بها المبتدع وسهل أمرها، نظير الذنب إذا تهاون به، فالمتهاون أعظم وزراً من غيره.
6- وأما الاختلاف من جهة كونها كفراً وعدمه فظاهر أيضاً، لأن ما هو كفر جزاؤه التخليد في العذاب -عافانا الله- فلا بدعة أعظم وزراً من بدعة تخرج عن الإسلام... والله المستعان بفضله. انتهى.
والله أعلم.