الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فنسأل الله عز وجل أن يتقبل والدك في عباده الصالحين، وأن يغفر لنا وله ولجميع المؤمنين، فما ذكرته من أحوال والدك قبل وفاته يبشر بحسن خاتمته والحمد لله، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 29018.
وأما ما ذكرت عن من حكموا على أبيك بالكفر لمجرد أنه صوفي فهو جهل منهم وظلم كبير، وجرم يخشى معه عليهم، ففي الصحيح: من قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما إن كان كما قال وإلا رجعت عليه. وليعلم هؤلاء أنه ليس كل من وقع في الكفر وقع الكفر عليه، إذ لا يثبت الكفر إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع. وراجع في ذلك الفتاوى ذات الأرقام التالية: 12800، 53835، 176653.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن الصوفية أجناس ففيهم الأخيار، وفيهم الأشرار، وليس كل من انتسب للصوفية فاسق أو كافر، فقد ينتسب إليهم من يُحْسِن الظنَّ فيهم، ويجهل كثيراً من انحرافاتهم، وقد ينتسب إليهم من يتعاون معهم على بر وتقوى ولا يشاركهم فيما عندهم من الباطل -وهو حال والدك كما تحكي- وإن تبرأه مما يفعله الصوفية لهو خير دليل على صحة معتقده، وراجع في ذلك الفتوى رقم: 64723، والفتوى رقم: 102883.
وليعلم هؤلاء أن الحكم على أحد إنما يكون بما يظهره من عمل، والله يتولى السرائر، وهو وحده الذي يحاسب العباد، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إني لم أومر أن أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم. رواه البخاري ومسلم وغيرهما. قال ابن حجر في فتح الباري: وكلهم أجمعوا على أن أحكام الدنيا على الظاهر والله يتولى السرائر، وقد قال صلى الله عليه وسلم لأسامة: هلا شققت عن قلبه. وقال للذي ساره في قتل رجل: أليس يصلي؟ قال: نعم، قال: أولئك الذين نهيت عن قتلهم. انتهى.
وبناءً على ما سبق فالواجب على هؤلاء التوبة إلى الله تعالى مما وقع منهم، قال الله تعالى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ {النور:15}، واستعمال العدل في الحكم على الآخرين كما علمنا القرآن وكما ورد في السنة كما سلف، وأن يحكموا على كل فرد بما يستحقه، قال تعالى: لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ {آل عمران:113}، وقال تعالى: مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ {آل عمران:110}، وشيخ الإسلام مع قوله ببدعية الاحتفال بالمولد النبوي إلا أنه يقول في كلام له عن حكم المحتفلين به: كذلك ما يحدثه بعض الناس إما مضاهاة للنصارى في ميلاد عيسى عليه السلام، وإما محبة للنبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له، والله قد يثيبهم على هذه المحبة والاجتهاد لا على البدع من اتخاذ مولد النبي صلى الله عليه وسلم عيداً. انتهى.
وهذا لا يعني مشروعية الاحتفال ولكن المقصود من كلامه التفريق بين إحسان المحسن وإساءته كما أنه اعتاد رحمه الله التماس الأعذار للمسلمين، وراجع إن شئت حكم الاحتفال بالمولد في الفتاوى ذات الأرقام التالية: 21712، 1888، 1563، 28549.
وأما قولهم: إن صلاة السنن الراتبة في المسجد بدعة فغير صحيح كذلك، فقد ثبت فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها في البيت وهو الأكثر والأفضل، كما ورد فعله لها في المسجد وهو جائز، ففي سنن أبي داود عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب حتى يتفرق أهل المسجد. قال صاحب عون المعبود: يطيل القراءة في الركعتين بعد المغرب: أي أحياناً لما روى ابن ماجه أنه كان يقرأ فيهما الكافرون والإخلاص (حتى يتفرق أهل المسجد): ظاهره أنه كان يصليهما في المسجد فيحمل على أن فعلهما فيه لعذر منعه من دخول البيت، والأظهر أنه يحمل على بيان الجواز. انتهى.
وفيه أيضاً عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى مسجد بني عبد الأشهل فصلى فيه المغرب فلما قضوا صلاتهم رآهم يسبحون بعدها، فقال: هذه صلاة البيوت. قال صاحب عون المعبود: (رآهم يسبحون): أي يتطوعون ويصلون نافلة (فقال هذه): أي النوافل (صلاة البيوت): أي الأفضل كونها فيها لأنها أبعد من الرياء وأقرب إلى الإخلاص لله تعالى، ولأنه فيه حظ للبيوت من البركة في القوت، والظاهر أن هذا إنما لمن يريد الرجوع إلى بيته بخلاف المعتكف في المسجد فإنه يصليها فيه ولا كراهة بالاتفاق. انتهى.
والله أعلم.