الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أما بعد:
فإن الاستصناع في اصطلاح الفقهاء: أن يطلب إنسان من آخر شيئا لم يصنع بعد ليصنع له طبق مواصفات محددة ، بمواد من عند الصانع ، مقابل عوض مالي.
وهو شبيه بالإجارة ، وبالسَّلَم ، والبيع بالمعنى الخاص ، أما شبهه بالإجارة فلأن العمل فيه جزء من المعقود عليه ، وأما شبهه بالبيع من حيث أن الصانع يقدم المواد من عنده مقابل عوض ، لكن تعريف الفقهاء المتقدم له يخرجه عن كونه واحداً من الثلاثة ، ويوضح أنه عقد مغاير لهذه العقود ، وهو من المعاملات الجائزة عند العلماء في الجملة ، وإن كانوا اختلفوا في النوع الجائز منه ، فالأئمة الثلاثة: مالك والشافعي وأحمد جعلوه سلما ، واشترطوا لصحته شروط السلم. التي من أهمها تقديم رأس المال في مجلس العقد.
أما الحنفية فقد أجمعوا -أو أكثرهم- على جوازه طبقاً للتعريف المتقدم ، وجعلوه عقداً مغايراً للسلم فلا تجب فيه مراعاة شروطه ، لكن منهم من قال: إنه مواعدة غير ملزمة لأحد الطرفين ، وليست بيعاً إلا عند الفراغ من العمل وتسليم المصنوع إلى المستصنع وقبض الثمن ، فإنه يلزم حينئذ. وهذا قول مرجوح عندهم ، والذي عليه أكثرهم أنه عقد ، وليس مجرد وعد.
والذي نرى - والله أعلم-أن الصحيح في تكييف عقد الاستصناع أنه عقد مستقل ، ليس بيعاً ، ولا إجارة ، ولا سلماً -كما قدمنا- وهذا هو رأي مجمع الفقه الإسلامي ، وذلك لمغايرته لكل الثلاثة. وقد استدل من أجازه بقوله تعالى: (قالوا ياذا القرنين إن يأجوج ومأجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداًّ * قال ما مكني فيه ربي خير فأعينوني بقوة أجعل بينكم وبينهم ردماً) [الكهف:94،95] قال ابن عباس: خرجاً: أجراً عظيماً.
هذا مع ما فيه من الرفق والتيسير على الصانع والمستصنع معاً ، ولا شك أن جلب ما ييسر على الناس مقصد من مقاصد الشرع التي بني عليها ، فتنبغي مراعاته حيث لم يرد نص يقضي بعدم ذلك ، وإنما كان فيه تيسير عليهما لأن الصانع يكون قد باع مصنوعه مسبقاً وتحقق الربح فيه ، فهو يعمل على هدى وبصيرة ، ولولا عقد الاستصناع لاحتاج إلى البحث بعد صناعة الشيء عن فرصة لتسويقه ، فقد يبيعه فوراً ، وقد يتأخر بيعه ، بل قد يكسر عنده فيتحمل نفقاته وصيانته وغير ذلك مما يمكن تجنبه وتفاديه بعقد الاستصناع.
وهناك أيضاً سلع يتعذر صنعها قبل وجود مشتر لها كبناء منزل بمواصفات معينة ، وفي مكان معين ونحو ذلك.
وأما المستصنع فلأنه يستطيع أن يضع الشروط ويحدد المواصفات المرغوبة عنده ، والملائمة لذوقه وغير ذلك مما لا يحصل غالباً إلا في هذا النوع من العقود. أما شروط صحته فإليك أيها السائل أهمها.
1-تحديد مواصفات الشيء المطلوب تحديداً يمنع التنازع والخصام عند التسليم.
2-عدم ذكر الأجل عند العقد ، فإن ذكر أجل انقلب إلى عقد سلم تراعى فيه شروط السلم وأحكامه ، وهذا عند الإمام أبي حنيفة.
لكن الذي قرره مجمع الفقه الإسلامي ويتماشى مع المعاملات المعاصرة هو أنه يجوز ذكر الأجل ، بل يجب حسماً للنزاع ، على أن الأجل الذي يجوز ضربه هو ما يحتاج إليه لإتمام العمل وليس أكثر من ذلك ، ولا يشترط في صحة هذا العقد تعجيل الثمن بل يجوز تأخيره كله أو بعضه. لأنه ليس سلما ، كما لا يشترط أن يكون ما يأتي به العامل من صنعه هو إلا إذا اشترط المستصنع ذلك.
وأخيراً ، إذا اكتملت شروط صحة عقد الاستصناع وانتفت عنه الموانع فإن الصحيح أنه يلزم كلا من الطرفين ، فلا يحق لأحدهما فسخه إلا برضى الطرف الآخر ، هذا هو الذي تقتضيه المصلحة ، وتنتفي معه المضرة ، وهو الذي أخذ به مجمع الفقه الإسلامي ، وهو قول عند بعض الأحناف. ومن أراد المزيد من الاطلاع على أحكام الاستصناع فليراجع: "بحوث فقهية في قضايا اقتصادية معاصرة" تأليف: الدكتور محمد عثمان ، والدكتورعمر سليمان الأشقر ، ففيه الفائدة. وقد اعتمدنا عليه في هذه الفتوى.
والله الموفق للصواب.