الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فهذه العطور المحتوية على الكحول، إن كان هذا الكحول هو المعروف طبياً (بالإيثانول) فلا شكَ في أنه خمر، ولا خلافَ بين الأئمة الأربعة في أن الخمر نجسة، وإنما قال بطهارتها طائفةٌ قليلةٌ من أهل العلم كربيعةَ شيخ مالك والمُزني صاحب الشافعي، والقولُ بنجاستها هو الصواب فإن الله تعالى قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ {المائدة:90 }.
ووصفُ الخمر بأنها رجس دليلٌ على نجاستها، فإن قيل: إنها قرنت بالميسرِ والأنصاب والأزلام وهي طاهرة فدل على أن الرجس في الآية هو الرجس المعنوي، قلنا: خرجت هذه الثلاثة بالإجماع فبقيت الخمرُ على الأصل، فإن قيل: فلم يأمر النبي صلي الله عليه وسلمَ بغسل الأواني من أثر الخمر ولا بغسل الأرض من أثرها وقد أمر بإراقتها في سكك المدينة حين حرمت، قلنا: لا يلزمُ أن يرد الأمر بغسلها في كل حديث، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم كما في سنن أبي داود عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه الأمر بغسل الأواني من أثر الخمر، فقد سأله أبو ثعلبة: إنّا نكونُ بأرضِ قومٍ أهل كتاب وهم يأكلون في آنيتهم الخنزيرَ ويشربون فيها الخمر، أفنأكلُ في آنيتهم، فقال: لا إلا ألا تجدوا غيرها فاغسلوها وكلوا فيها. وأصله في البخاري.
فدلَ بوضوح على أن المستقر عند الصحابة نجاسةُ الخمر وإلا لما سألوا عن أثرها المشكوك فيه، ودل أمر النبي صلي الله عليه وسلم بغسلها على نجاستها، فهذا الحديث مع وصف الخمر في الآية بأنها رجس كافٍ جداً في الدلالة علي صحة مذهب جماهير العلماء القائلين بنجاسة الخمر، وقد نهى النبي صلي الله عليه وسلم عن أن تُتَّخذ الخمر خلاً. رواه مسلم.
فنهى عن تعمدِ تحويلها إلى عينٍ أخرى ليمكن الانتفاع بها وليست حينئذٍ خمرا، فكيفَ يجوزُ الانتفاع بها وهي لم تزل خمراً حساً ومعنى.
وقد انتصرَ العلامة الشنقيطي في أضواء البيان في الكلامِ على آية المائدة للقولِ بنجاسة الخمر فأجاد وأفاد رحمه الله، فدل جميعُ ما سقناه على نجاسة الخمر وعدمِ جواز الانتفاع بها لا في العطور ولا غيرها.
وليس معني هذا أننا نقدحُ في أحدٍ من أهل العلم أو ننتقصُ منه، ولكن الدليل هو العَلَم الذي يجبُ أن يشمر إليه كل مسلم، والمجتهد المخالف معذور، فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المصيب من المجتهدين يؤجرُ أجرين، والمخطئ يؤجرُ أجراً واحدا، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم من الهداة المهتدين.
والله أعلم.