الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فاعلم أيها السائل الكريم أن بر الوالدين في المعروف من آكد الحقوق والواجبات وأعظم القربات، قال الله تعالى وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا {الأحقاف:15} وقال سبحانه: وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوكِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا. {الإسراء: 23}. وعلى هذا فإنا نوصيك ببذل الجهد قدر المستطاع في البر بوالديك، واعلم أن رضا مولاك عنك في رضا والديك ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: رضا الرب في رضا الوالد، وسخط الرب في سخطه. رواه الترمذي وغيره وصححه الألباني.
ولكنا نؤكد على أنه لا يجوز للوالدين أن يتعسفا في استعمال هذه الحقوق بما يعنت الأولاد ويسبب لهم الضرر والمشقة، بحجة البر والإحسان إليهما فهذا غير جائز, بل هذا مما نهى عنه الشرع؛ لأن الله سبحانه كما وصى الأبناء بالآباء، كذلك وصى الآباء بالأبناء، قال سبحانه: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ. {النساء:11}، قال السعدي رحمه الله: فالأولاد عند والديهم موصى بهم، فإما أن يقوموا بتلك الوصية، وإما أن يضيعوها فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب. انتهى. ولا شك أن من أعنت ولده وشق عليه فقد ضيع وصية الله فيه.
أما بخصوص الأمور المادية فإذا كان الوالدان بحاجة إلى المال وكان الولد غنيا، فإنه يجب عليه الإنفاق عليهما بالمعروف، ولكن أما وقد ذكرت أن والديك لديهما من المال ما يكفيهما، فلا يجب عليك حينئذ نفقتهما، ولكن إن أعطيتهما مع غناهما من المال ما يطيب خاطرهما فهو الأفضل، ولك –إن شاء الله - الأجر الجزيل والمثوبة العظيمة من الله جل وعلا، ولكن يبقى أن هذا على سبيل الندب والاستحباب لا على سبيل الحتم والإلزام، وأما ما تتطلع إليه نفوسهما من هدية بسيطة تدخل بها عليهما عند زيارتك لهما فينبغي لك أن تلبي رغبتهما في ذلك بالقدر الذي لا يعود عليك وعلى أولادك بالضرر.
أما نفقة من ذكرت من إخوتك البالغين فلا تجب عليك قطعا، ولا يجوز لوالديك أن يكرهاك على ذلك، إذ ليس هذا من حقوقهما، فإن الشرع قد حفظ الأموال لأصحابها، وجعلها معصومة مصونة لا تحل إلا برضا صاحبها وطيب نفسه، فقد قال الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه. رواه أبو داود وصححه الألباني.
وقد يتعلق بعض الآباء في مثل هذا التصرف بما رواه ابن ماجة وصححه الألباني من قول الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم: أنت ومالُك لأبيك.
فالجواب أنه لا متعلَّق لهم بهذا الحديث وذلك لأن اللام في الحديث: ليست للملك بل للإباحة.
قال ابن القيم في"إعلام الموقعين": واللام في الحديث ليست للملك قطعاً، ومن يقول هي للإباحة أسعد بالحديث، وإلا تعطلت فائدته ودلالته. انتهى.
ومما يدل على أنها ليست للملك أن الابن يرثه أولاده وزوجته وأمه، فلو كان ماله ملكاً لوالده لم يأخذ المال غير الأب.
وليست الإباحة أيضا على إطلاقها، بل هي بشروط بيناها بالتفصيل في الفتوى رقم: 25339. وللفائدة تراجع الفتوى رقم: 54694.
والله أعلم.