الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعـد:
فإن الرضى بما قدر الله، وتسليم العبد لكل ما جرى به القدر، قد يقذفه الله تعالى في قلوب بعض من يشاء من عباده؛ فبعضهم يحصل له ذلك بتوفيق الله له، وبعضهم يحصل له بالإنابة إليه، ومجاهدة النفس، كما قال الله تعالى: اللهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ {الشُّورى:13}، قال العلماء: العباد ينقسمون في ذلك إلى قسمين: قسم جبلوا على طاعة الله ومحبته، والرضا بقدره، والتسليم لأمره، وقسم هدوا لذلك، وجاهدوا أنفسهم؛ حتى وصلوا إلى كمال الإيمان، والرضا بكل ما قدره الله تعالى في هذا الكون.
قال السعدي في تفسيره: اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ. أي: يختار من خليقته من يعلم أنه يصلح للاجتباء.. وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ: هذا السبب الذي من العبد، يتوصل به إلى هداية الله تعالى، وهو إنابته لربه، وانجذاب دواعي قلبه إليه، وكونه قاصدًا وجهه؛ فحسن مقصد العبد، مع اجتهاده في طلب الهداية، من أسباب التيسير لها. اهـ.
وقال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين: والتحقيق في المسألة: أن الرضا كسبي -باعتبار سببه-، موهبي -باعتبار حقيقته-، فيمكن أن يقال بالكسب لأسبابه. فإذا تمكن في أسبابه، وغرس شجرته: اجتنى منها ثمرة الرضا؛ فإن الرضا آخر التوكل. فمن رسخ قدمه في التوكل، والتسليم، والتفويض: حصل له الرضا، ولا بد. ولكن لعزته، وعدم إجابة أكثر النفوس له، وصعوبته عليها، لم يوجبه الله على خلقه؛ رحمة بهم، وتخفيفًا عنهم، لكن ندبهم إليه، وأثنى على أهله، وأخبر أن ثوابه رضاه عنهم، الذي هو أعظم وأكبر وأجل من الجنان وما فيها.
فمن رضي عن ربه؛ رضي الله عنه، بل رضا العبد عن الله من نتائج رضا الله عنه، فهو محفوف بنوعين من رضاه عن عبده: رضا قبله، أوجب له أن يرضى عنه، ورضا بعده، هو ثمرة رضاه عنه؛ ولذلك كان الرضا باب الله الأعظم، وجنة الدنيا، ومستراح العارفين، وحياة المحبين، ونعيم العابدين، وقرة عيون المشتاقين. اهـ.
وأما طريق الوصول إلى الرضى عن الله تعالى، فتكون بأمور ذكرها أهل العلم، نختصر لك منها ما يلي:
اعتقاد العبد لكمال ربه سبحانه وتعالى، ولإحسانه إلى عباده، وأنه يستحق أن يرضى بقضائه؛ لأن حكمه عدل لا يفعل إلا خيرًا وعدلًا، ولأنه لا يقضي للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، إن أصابته سراء شكر، فكان خيرًا له، وإن إصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له، ويكون بمجاهدة النفس على زيادة الإيمان، وتسليم الأمر لله تعالى؛ حتى يعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، وبذلك يرضى عن الله تعالى، قال ابن القيم في مدارج السالكين: ومن ذلك أن يعلم العبد أن أعظم راحته وسروره ونعيمه: في الرضى عن ربه تعالى وتقدس في جميع الحالات؛ فإن الرضى باب الله الأعظم، ومستراح العارفين، وجنة الدنيا، فجدير بمن نصح نفسه أن تشتد رغبته فيه، وأن لا يستبدل بغيره منه.. وأن يعلم أن الرضى يوجب له الطمأنينة، وبرد القلب، وسكونه، وقراره، والسخط يوجب اضطراب قلبه، وريبته، وانزعاجه، وعدم قراره. اهـ.
وللمزيد، انظر الفتويين: 44176، 106294.
والله أعلم.