الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فأركان خطبة الجمعة عند الشافعية والحنابلة كما حررها محققوا المذهبين تكاد تتفق إلا قليلا، ونحن نذكرها مع بيان أدلتها وما نرى رجحانه مع بيان الخلاف بين المذهبين معتمدين في أكثر ما ننقله على كلام أبي زكريا النووي محقق المذهب الشافعي وأبي محمد بن قدامة محقق المذهب الحنبلي.
فأول أركان الخطبة: حمد الله تعالى وهذا متفق عليه بين الشافعية والحنابلة واستدل له بحديث: كل كلام لا يُبدَأ فيه بالحمد لله فهو أجذم رواه أبو داود وهو ضعيف.
وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه: كانت خطبته صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة يحمد الله ويثني عليه بما هو أهله, وقال أحمد: لم يزل الناس يخطبون بالثناء على الله والصلاة على رسوله صلى الله عليه وسلم.
الركن الثاني من أركانها: هو الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ووجهه عندهم أن كل عبادة افتقرت إلى ذكر الله تعالى افتقرت إلى ذكر رسوله -صلى الله عليه وسلم- كالأذان. وفيه نظر, ولكن يقويه كلام الإمام أحمد المتقدم وفيه نقل عمل الناس على هذا.
الركن الثالث من أركان الخطبة: الوصية بتقوى الله تبارك وتعالى: ودليله أن مقصود الخطبة هو الوعظ وأتم ما يحصل به المقصود هو الأمر بالتقوى, قال النووي: وهل يتعين لفظ الوصية؟ فيه وجهان: الصحيح الذي نص عليه الشافعي وقطع به الأصحاب والجمهور لا يتعين بل يقوم مقامه أي وعظ كان, والثاني حكاه القاضي حسين والبغوي وغيرهما من الخراسانيين أنه يتعين كلفظ الحمد والصلاة, وهذا ضعيف أو باطل, لأن لفظ الحمد والصلاة تعبدنا به في مواضع, وأما لفظ الوصية فلم يرد نص بالأمر به ولا بتعيينه. انتهى.
وأما ركنها الرابع: فهو قراءة آية من القرآن بشرط أن تكون مفهمة معنى فلا يجزئ "ثم نظر" ودليله حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه عند مسلم: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقرأ آيآت من القرآن ويذكر الناس. واستدل به ابن قدامة.
وفي صحيح مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يقرأ (ق) على المنبر يوم الجمعة, ونقل النووي أربعة أوجه للشافعية في حكم قراءة الآية في الخطبة, والصحيح في المذهب وعليه نص الشافعي في الأم وجوب قراءة آية في إحدى الخطبتين.
الركن الخامس: هو الدعاء للمؤمنين وفيه قولان للشافعية فقال كثير منهم بالاستحباب وقال جماعة بالوجوب وصححه النووي ودليلهم جريان العمل به منذ عصر السلف, وذكر النووي أن مذهب أحمد ركنية هذه الخمسة في الخطبة, وفيما قاله نظر فقد نص الموفق في المغني وغيره من الحنابلة على أن الدعاء للمؤمنين في الخطبة مستحب.
بل قال في حاشية الروض: ولا نزاع في ذلك. والأظهر استحباب الدعاء لا ركنيته كما هو مذهب الجماهير لأنه لا ينهض دليل على إثبات الركنية. وزاد فقهاء الجنابلة الجهر بالخطبة بحيث يسمع العدد المعتبر وموالاتها مع الصلاة وهذان معتبران عند الشافعية كذلك ولكن يعبر عنهما بالشروط.
ونشير هنا إلى أنه قد ذكر العلامة ابن قاسم في حاشية الروض أن شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم يختاران وجوب الشهادتين في الخطبة, ويدل له ما رواه أبو داود في سننه أنه صلى الله عليه وسلم قال: كل خطبة ليس فيها تشهد فهي كاليد الجذماء, قال ابن قاسم: قال في المبدع: ويتعين أن يشهد أنه عبد الله ورسوله, وهو قول للمجد وغيره, وأوجب شيخ الإسلام وتلميذه وغيرهما الشهادتين في الخطبة, وهما مشروعتان في الخطاب والثناء, قالوا: وكيف لا يجب التشهد الذي هو عقد الإسلام في الخطبة, وهو أفضل كلماتها, فتأكد هنا ذكر الشهادة له -صلى الله عليه وسلم- لدلالته عليه ولأنه إيمان به, والصلاة عليه دعاء له ومشروعيتها أمر معروف عند الصحابة رضي الله عنهم.
وقال ابن القيم: خصائص الجمعة الخطبة التي يقصد بها الثناء على الله وتمجيده والشهادة له بالوحدانية, ولرسوله بالرسالة, وتذكير العباد بأيامه وتحذيرهم من بأسه ونقمته, ووصيتهم بما يقربهم إليه وإلى جناته, ونهيهم عما يقربهم من سخطه وناره, فهذا هو مقصود الخطبة والاجتماع لها"".
قال شيخ الإسلام وغيره: لا يكفي في الخطبة ذم الدنيا, وذكر الموت, لأنه لا بد من اسم الخطبة عرفاً بما يحرك القلوب ويبعث بها إلى الخير. وذم الدنيا والتحذير منها مما تواصى به منكروا الشرائع, بل لا بد من الحث على الطاعة والزجر عن المعصية والدعوة إلى الله والتذكير بآلائه, وقال: ولا تحصل الخطبة باختصار يفوت به المقصود, وقد طال العهد وخفي نور النبوة على الكثير, فرصّعوا الخطب بالتسجيع والفِقَر وعلم البديع فعدم حظ القلوب منها وفات المقصود بها, وقد كان صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه حتى كأنه منذر جيش يقول: صبحكم ومساكم.
وذكر ابن القيم وغيره أن خطبه صلى الله عليه وسلم إنما كانت تقريراً لأصول الإيمان من الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله ولقائه, وذكر الجنة والنار, وما أعد الله لأوليائه وأهل طاعته, وما أعد لأعدائه وأهل معصيته, ودعوة إلى الله وتذكير بآلائه التي تحببه إلى خلقه, وأيامه التي تخوفهم من بأسه, وأمراً بذكره وشكره الذي يحببهم إليه, فيملأ القلوب من خطبته إيماناً وتوحيدا, ومعرفة بالله وآياته وآلائه وأيامه ومحبة لذكره وشكره, فينصرف السامعون وقد أحبوا الله وأحبهم.
والله أعلم.