الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فننصحك بأمرين نرجو أن يكون فيهما الحل الرادع لمثل هذه الأفكار:
الأول: الإيمان الجازم بالقضاء والقدر، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وليس في السماوات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئته سبحانه، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد، والله خالق كل شيء ومن ذلك أفعال العباد كما دلت على ذلك النصوص...
فكل ما يفعله الإنسان من أعمال إنما يكون بمشيئة الله تعالى وإرادته، قال الله تعالى: وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا {الإنسان:30}.
وجميع أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ {الصافات:96}.
كما أن للعبد اختيارا ومشيئة فما يفعله العبد من الطاعات أو المعاصي يفعله بمشيئته، وقد أعطى الله تعالى العبد الإرادة والمقدرة على التمييز بين النافع والضار فهو يختار منهما ما شاء، وسيحاسب على اختياره ذلك.
الثاني: التسليم والاستسلام لحكم الله تعالى وشرعه وألا تكثر التفكر في القدر، بل تشغل نفسك بالعلم الشرعي النافع والعمل الصالح ويكثر من الدعاء بالهداية والثبات.. روى البخاري عن علي رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال: ما منكم من أحد إلا وقد كتب مقعدة من الجنة ومقعده من النار، فقالوا: يا رسول الله أفلا نتكل، فقال: اعملوا فكل ميسر ثم قرأ: فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى... إلى قوله: فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى.
قال ابن القيم في كتابه شفاء العليل في الباب السابع وعنوانه في أن سبق المقادير بالشقاوة والسعادة لا يقتضي ترك الأعمال بل يقتضي الاجتهاد والحرص: يسبق إلى أفهام كثير من الناس أن القضاء والقدر إذا كان قد سبق فلا فائدة في الأعمال وأن ما قضاه الرب سبحانه وقدره لا بد من وقوعه فتوسط العمل لا فائدة فيه، وقد سبق إيراد هذا السؤال من الصحابة على النبي صلى الله عليه وسلم فأجابهم بما فيه الشفاء والهدى.
ثم ذكر الحديث المتقدم وروايات أخرى في نفس المعنى، ثم قال: فاتفقت هذه الأحاديث على أن القدر لا يمنع العمل ولا يوجب الاتكال عليه، بل يوجب الجد والاجتهاد.
ثم قال: فالقدر السابق معين على الأعمال وما يحث عليها ومقتض لها، لا أنه مناف لها وصاد عنها، وهذا موضع مزلة قدم من ثبتت قدمه فاز بالنعيم المقيم، ومن زلت قدمه عنه هوى إلى قرار الجحيم، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الأمة في القدر إلى أمرين هما سببا السعادة والإيمان بالأقدار فإنه نظام التوحيد والإتيان بالأسباب التي توصل إلى خيره وتحجز عن شره وذلك نظام الشرع فأرشدهم إلى نظام التوحيد والأمر. انتهى.
وقال الإمام الطحاوي في عقيدته المشهورة: ولا تثبت قدم الإسلام إلا على ظهر التسليم والاستسلام، فمن رام علم ما حظر عنه علمه ولم يقنع بالتسليم فهمه حجبه مرامه عن خالص التوحيد وصافي المعرفة وصحيح الإيمان، فيتذبذب بين الكفر والإيمان والتصديق والتكذيب والإقرار والإنكار، موسوساً تائهاً شاكاً لا مؤمناً مصدقاً ولا جاحداً مكذبا.. وقال أيضاً: وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان ودرجة الطغيان، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة، فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه، كما قال تعالى في كتابه: لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. فمن سأل لم فعل فقد رد حكم الكتاب ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين. انتهى...
فينبغي أن تحمدي الله عز وجل أن هداكِ للإيمان واسألي الله الثبات على الإسلام، واطردي عنك هذه الوساوس والتخيلات فإنك لا تدرين ما كتبه الله لك، واشتغلي بالعلم النافع والعمل الصالح، نسأل الله تعالى لنا ولكِ الهداية والثبات، ويمكنك مراجعة الفتاوى ذات الأرقام التالية: 4054، 60787، 67357، 97066.
والله أعلم.