الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فإن أحكام الشريعة أثر من آثار صفات الله وأفعاله، فتجد فيها الإتقان والحكمة، والإحسان والرحمة، والعدل والإحاطة، ولا يدرك هذه الحقيقة على الوجه الأكمل إلا من عرف حكم الله ووقف على ما فيه من مصالح ومنافع للبشر، حيث يعلم أن السعادة الحقيقة والحياة الطيبة لا يمكن أن تتحقق إلا بالاستقامة على شرع الله تعالى، قال سبحانه: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ {الأحقاف:13} وقال: وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا {الجن:16} قال الجلال السيوطي: أي طريقة الإِسلام. اهـ.
فالله تعالى هو كما وصف نفسه: أحكم الحاكمين وخير الحاكمين، وكذلك شريعته هي خير طريق وأحكم سبيل للإنسان في حياته، قال تعالى: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ {المائدة:50} قال السعدي: لا ثَمَّ إلا حكم الله ورسوله، أو حكم الجاهلية، فمن أعرض عن الأول ابتلي بالثاني المبني على الجهل والظلم والغي، ولهذا أضافه الله للجاهلية، وأما حكم الله تعالى فمبني على العلم، والعدل والقسط، والنور والهدى. وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. فالموقن هو الذي يعرف الفرق بين الحكمين، ويميز بإيقانه ما في حكم الله من الحسن والبهاء، وأنه يتعين عقلا وشرعا اتباعه. واليقين هو العلم التام الموجب للعمل اهـ.
ومن عرف هذا أيقن أن الشريعة ليست فقط ملائمة للبشرية، بل لا يُصلح البشرية إلا هي، فما من أمر ولا نهي في الشريعة إلا وهو مصلحة كله، قال العز بن عبد السلام في كتابه قواعد الأحكام في مصالح الأنام: كل مأمور به ففيه مصلحة الدارين أو إحداهما، وكل منهي عنه ففيه مفسدة فيهما أو في إحداهما، فما كان من الاكتساب محصلا لأحسن المصالح فهو أفضل الأعمال، وما كان منها محصلا لأقبح المفاسد فهو أرذل الأعمال. فلا سعادة أصلح من العرفان والإيمان وطاعة الرحمن، ولا شقاوة أقبح من الجهل بالديان والكفر والفسوق والعصيان اهـ.
ولأن هذه الشريعة هي الشريعة الخاتمة، ونبيها هو آخر الأنبياء، جاءت أحكامها بفضل الله تعالى وكرمه مناسبة لكل زمان ومكان ولكل أمة، شاملة لجميع مجالات الحياة، فهي تلبي جميع حاجات النفس البشرية: العقلية والنفسية والعاطفية والمادية؛ وهي تشتمل على تنظيم محكم لما ينبغي أن يكون بين الناس من علاقات ومعاملات، وهذا لا يتأتى لغير شريعة علام الغيوب سبحانه وتعالى.
وكيف لا تكون الشريعة ملائمة للطاقة البشرية، والله تعالى يقول: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ {المائدة:6} ويقول: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ {الحج:78}.
ويكفينا أن نتذكر بابا واحدا من أبواب الشريعة وهو باب الرخص الذي يراعى فيه حال المكلف وطاقته، فقد قال سبحانه: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا {البقرة:286}.
ومن أمثلة ذلك في أحكام الصيام قوله تعالى: وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ. حيث جاء التعقيب على هذا الحكم بقوله تعالى: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ {البقرة:185}.
وقد أجمل النبي صلى الله عليه وسلم هذا المعنى فقال: أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة. رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، وحسنه الألباني. قال المناوي في فيض القدير : السمحة أي السهلة القابلة للاستقامة، المنقادة إلى الله المسلمة أمرها إليه، لا تتوجه إلى شيء من الكثافة والغلظة والجمود، التي يلزم منها العصيان والسماجة والطغيان. اهـ
وقال أيضا صلى الله عليه وسلم: إن الدين يسر، ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه، فسددوا وقاربوا. رواه البخاري. قال ابن حجر في الفتح: دين الإسلام ذو يسر، أو سمى الدين يسرا مبالغة بالنسبة إلى الأديان قبله ؛ لأن الله رفع عن هذه الأمة الإصر الذي كان على من قبلهم. ومن أوضح الأمثلة له أن توبتهم كانت بقتل أنفسهم، وتوبة هذه الأمة بالإقلاع والعزم والندم اهـ.
وقد جعل أهل العلم من القواعد الكلية في الفقه الإسلامي قاعدة: المشقة تجلب التيسير.
والله أعلم.