الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعـد:
فالوسوسة في أمور الاعتقاد أغلبها والأصل فيها أنها من الشيطان؛ ففي الصحيحين من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته. ورواه أبو داود بنحوه، وفيه زيادة: فقولوا: الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. ثم ليتفل عن يساره ثلاثا وليستعذ من الشيطان. وحسنه الألباني.
ولا يخفى كراهة السائلة الكريمة لما تجده من هذه الوساوس، وهذا دليل على أمرين:
الأول: أن هذه الوسوسة من الشيطان وليست من نفسها؛ فقد قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: ذكر أبو حازم في الفرق بين وسوسة النفس والشيطان فقال: ما كَرِهَتْه نفسُك لنفسك فهو من الشيطان فاستعذ بالله منه، وما أحبته نفسك لنفسك فهو من نفسك فانهها عنه. انتهـى .
الثاني: وجود الإيمان، فقد جاء ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه: إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به؟ قال: وقد وجدتموه؟ قالوا: نعم. قال: ذاك صريح الإيمان. رواه مسلم.
قال النووي في شرح مسلم: معناه استعظامكم الكلام به هو صريح الإيمان، فإن استعظام هذا وشدة الخوف منه ومن النطق به فضلا عن اعتقاده إنما يكون لمن استكمل الإيمان استكمالا محققا وانتفت عنه الريبة والشكوك .. وقيل: معناه أن الشيطان إنما يوسوس لمن أيس من إغوائه فينكد عليه بالوسوسة لعجزه عن إغوائه، وأما الكافر فإنه يأتيه من حيث شاء ولا يقتصر في حقه على الوسوسة بل يتلاعب به كيف أراد. انتهـى.
فلتبشر الأخت السائلة، ولتَدَعْ عنها هذا العناء، ولتعلم أن الله لا يؤاخذها بهذه الوساوس، ما لم تتكلم أو تعمل، فقد قال صلى الله عليه وسلم: إن الله تجاوز لأمتي عما وسوست أو حدثت به أنفسها ما لم تعمل به أو تكلم. رواه البخاري ومسلم.
ثم لتمتثل أمر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بهذه الأمور الأربعة: أن تقول: الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد. وتتفل عن يسارها ثلاثا. وتستعيذ بالله. ثم بعد ذلك الكف والانتهاء.
قال ابن الجوزي في كشف المشكل: وسوسة الشيطان لا تنتهي فليس إلا التعوذ وقطع المساكنة لها، وإنما يستعين إبليس على هذه الوسوسة بالحس لا بالعقل، والحس لم يعرف وجود شيء إلا من شيء وبشيء، فأما العقل فيقطع على وجود خالق ليس بمخلوق. انتهـى. وراجعي لمزيد الفائدة الفتويين: 43339، 54808.
أما إن كانت هذه الوساوس بسبب المرض المعروف بالوسواس القهري، فقد سبق بيان ماهيته وعلاجه في عدة فتاوى، منها الفتاوى ذات الأرقام التالية: 3086، 56276، 60628، 52345، 3171 .
وقول السائلة الكريمة: إني كرهت الدنيا بسبب هذه الوساوس.. هو من جهة دليل على كرهها ورفضها لهذه الوساوس، وقد سبق بيان ما في ذلك من الخير. ولكنه من جهة أخرى قد يحمل نوعا من التسخط على أقدار الله تعالى، ولا يخفى ما في ذلك من الخطأ، وراجعي في ذلك الفتويين: 15888 ، 71474.
أما إذا كانت السائلة تعني بذلك كراهية الدنيا التي تشغلها عن الله فهذا من المعاني الفاضلة التي أقرها الشرع، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ذكر الله وما والاه وعالم أو متعلم. رواه الترمذي وقال: حسن غريب. وابن ماجه، وحسنه الألباني. قال القاري في مرقاة المفاتيح والمباركفوري في تحفة الأحوذي والمناوي في فيض القدير: الدنيا ملعونة أي مبغوضة من الله لكونها مبعدة عن الله. انتهـى.
والله أعلم.